أثيوبيا من حاجة مشروعة إلى غطرسة ممجوجة!

د. سعدالدين إبراهيم


نقلاً عن صحيفة "الأهرام" القاهرية، صرح وزير الموارد المائية الأثيوبي، عشية مؤتمر لوزراء حوض نهر النيل، بأن بلاده أوشكت على الانتهاء من تشيّيد سد النهضة، لتزويد أثيوبيا باحتياجاتها من الكهرباء، وأن سلسلة إضافية من السدود والخزّانات المائية يجري إنشاؤها للغرض ذاته، وأن أثيوبيا غير مسؤولة، ولا هي معنية بمخاوف وهواجس الآخرين.اضافة اعلان
وإذا كان الجزء الأول من تصريح المسؤول الأثيوبي مفهوماً ومشروعاً، فإن الجزء الثاني (أي عدم مسؤولية أثيوبيا عن هواجس ومخاوف الآخرين)، ينطوي على غطرسة ممجوجة، خاصة أن المقصود بالآخرين في هذا السياق، هو مصر والسودان، أي بلدا المصبّ.
بل إن مصر هي الأكثر تأثراً بالخطط المائية لبناء السدود الأثيوبية. فالسودان الشقيق لديه مصادر مائية أخرى، وأنهار أخرى، فضلاً عن هطول أمطار موسمية غزيرة على أراضيه، جنوباً وشمالاً. أما مصر، فهي صحراوية جافة، باستثناء شواطئها الشمالية على البحر الأبيض المتوسط، التي تهطل عليها الأمطار في فصل الشتاء. وربما كان ذلك وراء المقولة الشهيرة للمؤرخ الإغريقي هيرودوت، والتي سطرها منذ ألف سنة قبل الميلاد، أن "مصر هي هبة النيل" (Egypt is the Gift of the Nile).
لذلك، حرص المصريون، منذ الفراعنة قبل أربعة آلاف سنة، إلى محمد علي في أوائل القرن التاسع عشر، على معرفة كل شيء عن نهر النيل، وتأمين منابعه ومجراه. واستمر ذلك إلى عهد جمال عبدالناصر وعبدالفتاح السيسي. بل إن المؤرخين وعلماء الاجتماع، وعلى رأسهم الألماني الأميركي ويتفوغل (Wittfogel) صاغ نظرية كاملة عن نشأة الدولة المركزية فيما سماه "المجتمعات المائية" (Hydraulic Societies)، أي تلك التجمعات البشرية التي تنشأ وتعيش على مجاري الأنهار في بيئات صحراوية جافة، والتي تحتاج إلى سُلطة مركزية تحمي وترعى هذا المصدر المائي الوحيد، وتعمل على العدالة في توزيع مياهه بالعدل والقسطاس.
ومن ذلك أيضاً أن كل نهضة مصرية على امتداد التاريخ، ارتبطت بإدارة شؤون النيل وتقوية شواطئه، إلى شق الترع التي تتفرع منه، إلى بناء الجسور والسدود على مجراه، لتسهيل حركة السُكان، ولتخرين الفائض من مياهه في موسم الفيضان (أيلول (سبتمبر) وتشرين الأول (أكتوبر)) للاستعانة بها في موسم الجفاف أو "التحاريق" (حزيران (يونيو) وتموز (يوليو) وآب (أغسطس)).
وربما لم يعن بشؤون نهر النيل في العصر الحديث إلى جانب المصريين، إلا الإنجليز والإسرائيليون، أي كل من أراد السيطرة على مصر، أو إيقاع الإضرار بها.
وقد ارتبط الاهتمام البريطاني بمصر وشؤون النيل، بزراعة القطن، وخاصة من الأنواع المتوسطة وطويلة التيلة، التي اعتمدت عليها مصانع النسيج الإنجليزية خلال الثورة الصناعية، من القرن التاسع عشر إلى منتصف القرن العشرين.
أما إسرائيل، فقد انصب اهتمامها على كل ما يمكن إضعاف مصر من خلال نهر النيل. وقد وجدت في أثيوبيا خير نصير وأقوى حليف. وقد عملت إسرائيل على إقناع النخبة الأثيوبية الحاكمة بقواسم مشتركة معها. من ذلك أن كلا منهما مُحاطة بجيران من العرب والمسلمين الذين يُبادلونهما العداء. ولذلك كانت أثيوبيا، لمُدة طويلة، منذ الخمسينيات في القرن العشرين، هي الدولة الأفريقية الوحيدة، إلى جانب النظام العُنصري في جنوب أفريقيا، اللذان اعترفا بإسرائيل. كما تبادلت إسرائيل مع ذلك النظام العُنصري المعلومات النووية منذ ستينيات القرن الماضي. بل ويقال إن إسرائيل أجرت تجربة سلاحها النووي في المحيط الهندي قرب سواحل جنوب أفريقيا.
وعودة لأثيوبيا وإسرائيل، فلم يكن مستغرباً أن تتبنى أثيوبيا المسعى الإسرائيلي للحصول على مقعد مُراقب في منظمة الوحدة الأفريقية. وهو ما كان سيُعطي إسرائيل مزيداً من الفُرص لاختراق بقية الدول الأفريقية الخمسين، لولا أن مصر هي التي أحبطت ذلك المسعى الإسرائيلي-الأثيوبي المُشترك.
وجدير بالتنويه أن مصر لم تكفّ في السنوات الخمس الأخيرة عن التقارب والتعاون مع أثيوبيا. لكن أثيوبيا لا تترك فُرصة للتباعد عن مصر، إن لم يكن الإساءة لها، إلا وانتهزتها. هذا رغم أن مصر تملك من الوسائل ما يمكن أن تثير بها المتاعب لأي نظام حاكم في أثيوبيا. فهناك مشاكل حدودية لأثيوبيا مع كل من السودان والصومال. وليس لها منافذ بحرية إلا من خلال جاراتها العربيات. هذا فضلاً عن التنوع العِرقي الكثيف والرافض لتسلط الأقلية الأمهرية على بقية الأقليات الأخرى، وأهمها أقلية مسلمة قوامها ثلاثون بالمائة من مجموع سكان أثيوبيا. وقد نشبت صراعات مُسلحة في الماضي القريب مع كل من الصومال وأريتريا وجنوب السودان، حول إقليم "أوغادين".
ورغم عدم وجود أدلة مُباشرة، إلا أن عديداً من القرائن تُشير إلى أن الأصابع الإسرائيلية والأميركية ليست بعيدة عن كل المُخططات المائية لأثيوبيا، وخاصة تلك التي تنطوي على إضرار بمصر، ومنها دعوة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نيتنياهو لزيارتها وتشجيع أربع من جيرانها على استقباله في نفس الجولة، وكأنها بذلك تعلن للملأ عن نهاية القطيعة الأفريقية التي تلت الاعتداء الإسرائيلي في حزيران (يونيو) 1967، والذي كان تضامناً مع مصر في ذلك الوقت.
وعلى مصر أن تمد كل جسور ممكنة للتعاون مع الشعب الأثيوبي، رغم برودة، إن لم يكن عداوة، النخبة الحاكمة الأثيوبية، والتي تلقّى معظم أفرادها تعليماً أو تدريباً في إسرائيل. هذا في الوقت الذي نجح فيه نتنياهو في إعادة تطبيع العلاقات مع تركيا عموماً، ورجب طيب أردوغان خصوصاً. وكأن رئيس الوزراء الإسرائيلي يُحيي استراتيجية ديفيد بن غوريون، التي كان فحواها حِصار الحِصار. فإذا كانت الدول العربية تُحاصر إسرائيل، فلتسع إسرائيل لحِصار العالم العربي من خلال جيرانه غير العرب، وتحديداً تركيا وإيران وأثيوبيا.