أجمل الأمهات..!

لو سألني أحد عن أجمل الأمهات، لأجبتُ بثقة لها كل مسوّغات العالم: أمي! وستجيبون أيضاً بالشيء نفسه عن أمهاتكم -أمهاتنا اللواتي يصنعن ذلك المفهوم الكوني مطلق الجمال والمعنى: الأمومة. وأتصور أيضاً أننا نتقاسم معاً ذلك الهمّ البشري الذي يعتادنا بلا توقف ونحن نكبر وتكبر أمهاتنا، لكننا نراوغه دائماً بادعاء النسيان: كيف ستكون الحياة إذا غابت أمي؟! وفي الحقيقة، يحتاج الأمر إلى شاعر كبير مثل محمود درويش –واستدعاء قضية كبيرة أيضاً- ليقترح بديلاً من التماثل المركب بين كينونتين: "جفرا أمي، إن غابت أمي.. جفرا الوطن المسبي"! لكنّ الشّعر لا يخفف فجيعة اليُتم. وعندما استجار به الشاعر الكبير، أبدله غياباً صعباً بغياب ممضِّ آخر، وحسب!اضافة اعلان
الأمومة والنضال، بالقطع، صنوان. تبدأ الحكاية بحمل الكائن المرتقَب بين الضلوع أشهراً، ومقاسمته الهواء والماء وأجهزة الحياة، مروراً بالولادة المضنية، وانتهاءً ببداية التكريس للمهمة التي ليس فيها تقاعُد: الأمومة. وتحضرني تهويدة الأم، في نص الشاعر الكبير الآخر، وليام بَتلر ييتس، في قصيدته "أغنيات الأم العجوز":
مع الفجر أنهض، أركع وأنفخ في النار
حتى تومض جذوتها وتتوهج.
ثم علي أن أفرك، وأخبز، وأكنس،
حتى تشرع النجوم في البزوغ والوميض؛
لكن الصغار يستلقون هناك في الأسرّة، يحلمون
بمطابقة الأشرطة، الزرقاء والحمراء،
ينقضي يومهم في التبطُّل،
ويتنهدون كلما حركت الريح خصلة من شعرهم.
بينما ينبغي عليّ أنا أن أعمل، لأنني عجوز
وجذوة النار تخفت، وتبرد.
هذه هي المقاساة المشتركة بين أمهات العالم اللواتي يشتركن في محاولة فعل كل شيء قبل أن تخفت جذوة الحياة. لكنّ قسمتنا الغريبة في هذا الجزء من العالم جعلت الأمومة مهمّة حزينة. نتأمل، فيدهشنا عدد الأمهات العربيات اللواتي يُصبنَ في قلب فكرة الأمومة: بفقدان الأبناء بالقتل أو الاعتقال، أو فقر الأبناء وضبابية مستقبلهم. ولا أعرف، مثلاً، بأي سوء هو شعور أمّ الأسير الفلسطيني سامر العيساوي وإخوته، وهو الذي كتب: "قتل أخي فادي... وكان عمره 16 عاماً فقط، على أيدي القوات الإسرائيلية. وقضى شقيقي الآخر، الدكتور مدحت، 19 عاماً في السجن. وسُجن كل من أشقائي الآخرين، فراس وشادي ورأفت لمدد تراوحت بين 5 سنوات إلى 11 سنة. وتم اعتقال أختي شيرين، مرات عديدة، وقضت سنة في السجن هي الأخرى. وتم تدمير منزل شقيقي، وقطع المياه والكهرباء عن والدتي". وماذا أيضاً عن أمهات شهداء الربيع العربي، وأمّهات الآلاف الذين تداوروا على زنازين الأنظمة العربية كل الوقت؟!
لا يجب أن يكون جمال الأمهات –لو كانت حياتنا طبيعية- مرتبطاً بالفجيعة. لكننا مجبرون على مداورة الواقع الصعب باستنبات جمال مستحيل لأمهاتنا من تربة الحزن: "أجمل الأمهات التي انتظرت ابنها، وعاد مستشهداً، فبكت دمعتين ووردة، ولم تنزوي في ثياب الحداد". وإذن، يصبح مجرد البكاء القليل، والتهرّب من ارتداء السواد، هي السمات التي تترك لأمهاتنا شيئاً من الجمال الذي يليق بالأمهات! وفي الأماكن المتعبّة الأخرى، تختار أمُّ أفريقية شاردة من الإبادة والعطش ترك ابنها في الصحراء لأنها لم تعد تقوى على حمله –أو لأنّها تريد التخلص من عذاب رؤيته وهو يذوب في يديها، أو على أمل أن يعثُر به أحدٌ أوفر حظاً فيصون له هبة الحياة!
مثل كل شيء مائل في ميزان البشرية، وباختيارات بشرية –أو لا بشرية على الإطلاق- يتعرض مفهوم الأمومة المطلق، رغم الإجلال اللفظي، لكل أنماط الخربشات والتشويه السوريالي. وقد أصبح تخصيص يوم للاحتفال بالأمهات، بترزيق تجار بطاقات المعايدة وباعة الكهربائيات، ضربة فرشاة سوريالية غير مُحكمة في محاولتنا تزويق إنسانيتنا المنهوبة. وقد بحثتُ حقيقة عن أسباب للفرح هذا اليوم، فتداعت مشاعر الإشفاق على أقدار الكثير من أمهات العالم
–وأمهاتنا على وجه الخصوص. واشتقت إلى أمّي الراحلة بالتحديد -ودائماً ما أشتاقها كلما كنت بحاجة إلى الصدر الذي يستقبلني ويهدئني بلا كلام ولا أسئلة. لكنني تذكّرت خبرة أمّي القاسية أيضاً، من الزواج المبكر إلى الهجرة القسرية إلى الكفاح لاستلال أسباب الحياة من أنياب العوز. ولا أعرف إذا كان ارتداؤها دائماً ثوباً مطرزاً بالألوان بعد كل شيء، سبباً آخر كي أراها أجمل الأمهات!