أحجية

هي ظاهرة حديثة نسبيا، وذات تأثير هائل متصاعد، ظهورها كان مفاجئاً، ومنشؤها لغز كبير، امتدادها بلغ الآفاق. ضحاياها كثيرون، ويقابلهم فائزون كثيرون. ليست جائحة كوفيد، فماذا عساها أن تكون؟اضافة اعلان
إنها العملات الرقمية المشفرة، والتي كانت من أهم ظواهر العقد الماضي، وما يزال النقاش حول جوهرها ومآلاتها والموقف منها يتصاعد في كل اتجاه، تحدّت "غير المجازفين" فلم تنفجر وتتبخر، فكان لا بد من الالتفات لها، ومحاولة فهم كنهها، وبناء موقف منها.
فمؤخرا تصدرت هذه الظاهرة -مرة أخرى- أخبار الاقتصاد والأعمال والمال، بدأت بالإعلان الصيني "بأن جميع المعاملات في البلاد المتعلقة بالعملات المشفرة غير قانونية"، والطلب الحكومي من المصارف التوقف عن إجراء المعاملات المالية بها، وأدى ذلك سريعا إلى انخفاض كبير في الأسواق النشطة للعملات المشفرة. وفي نفس الفترة أعلن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الحرب على العملات المشفرة، وينتظر أن تعلن السلطات التركية تفاصيل الإجراءات التي ستتخذها لتطبيق هذه السياسة.
أعقب ذلك اعلان رئيس مجلس الاحتياطي الفدرالي الأمريكي بأن الولايات المتحدة "لا تتجه لحظر العملات المشفرة" فارتفعت الأسواق التي كانت قد بدأت فعلا بالتعافي -ان كان هذا من باب العافية-. اما إمارة دبي فقد أعلنت أن مركز دبي التجاري العالمي وقع اتفاقية مع هيئة الأوراق المالية لدعم تداول أصول التشفير في دبي، وتبلغ الإثارة مداها في دولة السلفادور، حيث أعلن الرئيس نجيب بوكيلي -المتحمس جداً لهذه الظاهرة - عن بدء تعدين أو استخراج العملات المشفرة في البلاد من طاقة البراكين.
كل هذه المواقف وغيرها أعلن عنها في غضون الأيام القليلة الماضية، وساهمت كالعادة في إثراء كثيرين، وتبديد ثروات آخرين من المضاربين والمستثمرين، الذين صنعوا أسواقا لأصول ولدت من العدم، ثم أصبحت لها قيمة سوقية فاقت في لحظة كتابة هذه العبارة 2 ترليون دولار بقليل، ولا يستبعد أن هذه القيمة سوف تتغير ارتفاعا أو هبوطا لحظة قراءة هذا المقال.
لقد لفتت هذه الظاهرة منذ أمد غير قصير أنظار الحكومات والقطاع المالي في العالم، وكذلك القانونيين، وعلماء الدين، والمستثمرين عموما، ولحقهم المثقفون والجمهور، وأصبح لزاما على السلطات ان تتخذ قرارات بشأن هذه الظاهرة، وطلب من النخب والمختصين تقديم إجابات وفق اختصاصاتهم حول ما يحل وما يحرم، وما يتماشى مع القوانين وما يخالفها، وكذلك الفرص والمخاطر سواء في المضي مع الظاهرة أو الوقوف بوجهها. فمن أسئلتها ما يتعلق بالزكاة، والميراث، وعقود البيع، ومنها ما يرتبط بالضريبة ونقل الأموال من وإلى الحسابات الكلاسيكية، وقانونية النشاط، ومنها أثر الظاهرة على الدولار، ومستقبل العملات المركزية -نسبة إلى البنوك المركزية-، وهل هي مقدمة لنظام نقدي جديد؟ وهل كسرت قيود النظام المالي العالمي؟ وهناك بالطبع أسئلة أكبر وأصغر من هذه، تختلف حولها الإجابات وتتعدد التكهنات.
وبالرغم من الكم الكبير من النشاط في هذا المجال، والمقاربات الفكرية والاقتصادية والشرعية، والتي تشرح التساؤلات بشكل جيد، وتستفيض في نقل ما تم وما يتم، وتحاول التنبؤ بما سيكون، ولكني لم أجد فيها ما يزيل الحيرة، ويرفع الالتباس، ويشفي الغليل, فهي ظاهرة متحركة، متقلبة، تجذب المغامرين، ولا تناسب الحذرين.
ما قلناه في سياقات أخرى، نكرره هنا من دعوة أهل الاختصاص والمسئولية للبحث والاجتهاد والبيان، وفي المقابل دعوة الجميع للاستماع لأهل المعرفة والذكر فيما لا نعلمه، وحوارهم والتسلح بالمعرفة والعلم، فما قد يبدو الآن من النوافل والكماليات، قد يكون غداً من الواجبات والحاجيات، وعجلة الزمان سريعة الدوران.