أحن إلى "اللويبدة"

.. ثمة نائمون ها هنا، بين مبتدأ الشارع ومنتهى الأمسيات: بعض حديث تسرب من بين الأصابع فنام على رصيف "شارع الشريعة" الذي يفضي إلى ضوضاء من فتيان وفتيات يغارون من قدوم النهار.اضافة اعلان
تعرفه رصيفا إثر رصيف، و(ياما) على خده مسحت آخر ابتساماتك قبل أن يلجَ الليل بالنهار، ويبدأ المتثائبون امتحانا آخر لإنسانيتهم المنسية في كواليس روايات مختلقة.
ستبدأ من "العبدلي"، هكذا تختار دائما. ربما هكذا قُدّر لك أن يكون طريقك صعودا من زوايا صعبة. ثمة شارع ناعس يتثاءب باستمرار: "شارع إبراهيم طوقان"، حيث المبنى القديم لرابطة الكتاب.
الشرفة التي اعتدت أن (تدخنك) عليها تبدو شاحبة، والإنارة المطفأة لا تليق بهيبة المكان الآخذ بالتلاشي من الذاكرة.
ها هنا جالست كتابا وثوارا ومتمردين ومنافقين، غير أن كل ذلك ذهب إلى غير رجعة، فقد تغير كل ما حولك كثيراً، ولم تعد أنت أنت.
ستسلك المنعطف الصاعد لمعانقة "دوار باريس".. يا الله كم تذكر هذا الشارع الصغير!!
إنه الموقف الدائم: بداية اللقاء، وبداية الفراق.. ثم الفراق كلّه.
كم تذكره في ليال صيفية وشتائية وخريفية، ينوس بالمارين الذين يتعربشون الطريق باتجاه (باريس).. من أجل حفنة ضوضاء في جبل يخلد إلى الهدوء طوال العام.
هنا يبدأ الحديث، وهنا ينتهي الحديث. عالمان من وهم يخلقان على عتبات بيوت تعانق حواف الشارع الذي لا رصيف له.
الأصابع هي ذاتها الأصابع، وإشارة الوداع هي الإشارة ذاتها منذ أول وداع، وحتى الموت، فلماذا تتعربش الأماكن بصور ماضية لا تحيط إلا بجزئية من المشهد؟.
الأصابع دائما مرتعشة في ذلك الدرب الصاعد نحو سماء (باريس)، والهمس لا يصنع حديثا، غير أن الكأس البلاستيكية المليئة بالقهوة والسيجارة المشتعلة تطرحان حلولا توفيقية بين رغبة الاستكانة إلى (عادية) الأشياء والولوج في السحر الخاص للحظة الماثلة.
.. وربما اللعنة الماثلة!!
على (باريس) يجتمع خلق كثيرون: عشاق ولصوص ومتسربون من مدارس وبائعو علكة وقهوة.. وفتيات وفتيان يتدربون على الحب من أول نظرة.
يخطر في بالك أن تخبرهم بألا يحاولوا.. لكنك تعدل عن ذلك في اللحظة الأخيرة، فالحب مثل الموت لابدّ للمرء أن يجربه مرة واحدة على الأقل. هكذا تختار الصمت، ومعاينة المشهد، لعلك تنسى في لحظة الحقيقة تلك أن "اللويبدة" هو "جبل الامتحان".
ستقول كلاما كثيرا، تعبر فيه عن فلسفات تافهة لا يؤمن بها أحد مهم. وستحكي قصصا قصيرة لا يقرأها غيرك، ولا يمكن لها أن تفوز حتى في مسابقات المبتدئين، غير أن تعزية ما تداخل نفسك، تجبرك على الانصياع إلى موسيقاها الرتيبة: ابتسم، أنت في "اللويبدة".
ستبتسم لا شك، حين تقرر الرحيل على عجل باتجاه شارع آخر، درب آخر تتنازعه ذكريات لم يحن الوقت لأن تصبح سراب مسافر: "المطلّ".
هو آخر ما عمّر الله من أماكن تجوع وتعطش وتمرض.. ثم تموت. ليس في الأمر لبسٌ، فالساحة الترابية التي تطل على ما تبقى من شارع "وادي صقرة" ترتخي في الليل، لتستقبل أولئك المنهكة أرواحهم.
مرة، في ذات ليل لا ترى فيه شيئا، سمعت بكاءً مريرا لشاب يعترف على هاتفه بحبه لإحداهن. وفي مرة أخرى سمعت شاباً يضحك بأعلى صوته، وهو يداعب هاتفه على أذنيه.. ويعترف بالحب.
في مرات عديدة تالية احترفت التنصت على الآخرين.. ولكن صمتهم لم يقل كثيراً، وكلامهم لم يقل شيئاً.
تحن إلى "اللويبدة" دائما. تعرفه كراحة يمناك: شارعاً شارعا، وباباً بابا.
تعرف طرقاته السرية التي تلت لك أسرارها في ليال كثيرة. وتعرف كيف تحبك طفلاً يضل الطريق كثيرا، ويهتدي في المساء إليه، بلا دليل يقرأ لك الطرقات، وتعرف كذلك كيف يتلقاك دائما في حضنه كرضيع صغير.
هكذا تعرف اللويبدة! هكذا يعرفك "اللويبدة"!
غير أنك تلوك سؤالاً قديماً يفرض تجدده على بقايا كأسك فيما أنت تغادر، وتطلق عنان الحديد نحو هبوط اضطراري باتجاه "البلد". سؤال قديم يتجدد، تفرضه واجهات المحال، وأرصفة الشوارع: هل ما تزال هناك موسيقى رتيبة تجبرك على الانصياع إلى القول: ابتسم، أنت في "اللويبدة"؟.


[email protected]