أدب الاختلاف: أخلاق تحضر عند تعدد وجهات النظر

ليس غريبا أن يختلف الناس في آرائهم وأفكارهم ولكن الغريب أن يتحول هذا الاختلاف إلى اتهام وخصومة -(تصوير: أسامة الرفاعي)
ليس غريبا أن يختلف الناس في آرائهم وأفكارهم ولكن الغريب أن يتحول هذا الاختلاف إلى اتهام وخصومة -(تصوير: أسامة الرفاعي)

عمان- الغد- هل يمكن أن نتقبل في حياتنا وعلاقاتنا ثقافة الاختلاف وتعدد وجهات النظر، وأن نتفهم اختلاف الآخرين معنا في الرأي أو الفهم أو الاجتهاد، ونميز بين مسائل ظنية يمكن أن تختلف فيها الإفهام والتقديرات والآراء والاجتهادات، وبين مسائل قطعية لا يصح أن نختلف فيها أصلا، لأن الخلاف يعني الخروج على الثوابت والأصول.اضافة اعلان
وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يربي أصحابه على أدب الاختلاف، وعلى ثقافة قبول الرأي الآخر في المسائل الاجتهادية، قال الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه بعد غزوة الأحزاب "لا يصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة"، فاختلفت إفهام الصحابة في ما يريده الرسول من هذا الأمر، وكان لهم في هذا رأيان :
الرأي الأول: فهم فريق من الصحابة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد منهم تأخير صلاة العصر إلى حين الوصول إلى بني قريظة، وإنه حتى لو أدركتهم صلاة العصر وهم في الطريق يجب أن لا يتوقفوا، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يريد منهم تأخير الصلاة في ذلك اليوم لذات التأخير، وهذا الفهم يحتمله حديث رسول الله وهو ما يدل عليه ظاهر الحديث.
ولكن فريقا آخر فهم معنى آخر وهو أيضا معنى محتمل ومقبول، حيث فهم أن الرسول صلى الله عليه وسلم يريد منهم أن يعجلوا في المسير ويعجلوا في الانطلاق ويعجلوا في الحركة حتى يدركوا صلاة العصر في بني قريظة، وكأن المقصود المبالغة في الإسراع، ولذلك اعتبروا أن أداءهم الصلاة قبل الوصول إلى بني قريظة لا ينافي أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصلاة في بني قريظة ما دامت الصلاة لن تؤخرهم عن الوصول.
وكل واحد من الفريقين عمل باجتهاده، فريق أخّر الصلاة إلى حين الوصول إلى بني قريظة وعمل بظاهر النص، وفريق آخر صلى في الطريق لما حضر وقتها وعلم بروح النص ومقصوده، ولم ينقل أن أي واحد من الفريقين إتهم الآخر في دينه، أو اتهمه في عقله، أو وجه له كلمة قاسية، أو عبارة جارحة، أو استعمل معه أسلوب السب والشتائم مثلما يحدث مع كثير من المختلفين اليوم، وإنما تقبل كل فريق رأي الفريق الآخر وعذره في فهمه وأدرك أنه مسألة اجتهادية تحتمل هذا الإفهام المختلف.
ولما وصل الفريقان إلى بني قريظة وعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحادثة، أقرّ كلا الفهمين واعترف بكلا الاجتهادين ولم يقل لأي منهما أنت مصيب وللآخر أنت مخطئ، ولم يعنف أي منهما، لأن الحديث نفسه يحتمل هذا ويحتمل ذاك.
في حياتنا التي نعيشها كثير من القضايا والمسائل هي من هذا القبيل قضايا تحتمل تعدد وجهات النظر وتباين الآراء قد يكون الاختلاف في قضية فقهية، كالاختلاف الذي وقع بين الصحابة في الصلاة في بني قريظة، وكالاختلافات الفقهية الكثيرة التي وقعت بين كبار العلماء كأبي حنيفة والشافعي ومالك وأحمد، وقد يكون خلاف في قضايا أسرية كالخلافات التي تحدث داخل في الأسرة بين الزوجين أو بين الآباء والأبناء، قد تكون الخلافات سياسية كالخلافات التي تحدث بين الأحزاب السياسية، أو في داخل مجلس النواب، والخلافات على اختلاف صورها وأشكالها لا بد أن يراعى فيها أدب الاختلاف، ولا يقبل بأي حال من الأحوال أن تتحول إلى عداوة وخصومة، وإلى سباب وشتائم، وإلى قدح وذم وإلى تنازع وبغضاء تنتشر نيرانه داخل المجتمع.
لا يقبل أن تتحول الخلافات أيا كان نوعها إلى التحريض من طرف تجاه طرف آخر لأنه خالفه في الرأي، وإلى المطالبة باقصائه ومنعه والقضاء عليه، وإلى سبب للصراع والعداوة داخل الأسرة أو المجتمع بحيث تشيع في المجتمع روح العداوة والبغضاء بسبب مسألة تقبل تعدّد الأفهام والاختلاف في التقدير.
ليس غريبا أن يختلف الناس في أرائهم وأفكارهم ولكن الغريب أن يتحول هذا الاختلاف إلى اتهام وخصومة وتشهير وسباب وشتائم وانقسام وتمزق داخل المجتمع.
لقد اختلف السلف الصالح رضوان الله عليهم، لكن اختلافهم في الرأي لم يكن سببا لافتراقهم، انهم اختلفوا لكنهم لم يتفرقوا، لأن وحدة القلوب كانت أكبر من إن ينال منها شيء، ولأنهم تخلصوا من العلل والأمراض النفسية التي تزرع في القلوب العدوات والأحقاد وتدعو إلى أن القطيعة والصراع لمجرد الاختلاف في قضية تحتمل تعدد وجهات النظر.
أيها الأصدقاء ما أجمل أن نتعلم كيف نختلف، وأن يكون أدب الخلاف وأخلاقه حاضرة عند اختلافنا وتعدد وجهات نظرنا. يقول فولتير "إني أعارضك الرأي ولكني مستعد أن أضحي بنفسي من أجل حقك في أن تقول رأيك".

الأستاذ الدكتور عبدالرحمن الكيلاني
رئيس رابطة علماء الأردن
[email protected]