"أريدكَ زوجا"

في سنِّ "الخطر" هي الآن. ولأنَّها فتاةٌ مُهَذَّبةٌ وخضَعَتْ منذُ أنْ بدأتْ بطلاءِ أظافرها باللون الورديِّ الخافِتِ، إلى تربيَةٍ شرقيَّةٍ تجعلُ نظرَها غير مستقيمٍ إلا في طلب الحق، أو درء الكيد؛ فهي لم تزل جالسَةً على مقعد رخامي في "المحطة"، تختلسُ نظراً خجولاً إلى النازلين من القطارات، وتحجمُ عن ردِّ تحايا العابرين، تتكلمُ في هاتِفِها مع شَخْصٍ مجهولٍ، وتُرسِلُ رسالةً إلكترونيَّةً إلى حُبٍّ قديم..؛ تُبدي أحياناً نوايا عمليَّة للنهوض، لكنَّ أقصى خطواتِها تقودُها إلى مسؤولٍ ميدانيٍّ في "المحطة" لتسأله عن مَوْعِد القطارِ الجَديدِ!اضافة اعلان
لدَيْها إلى الآن أملٌ تستمدُّه من تنهيدَةِ "فيروز" الغنائية:"ايه في أمل"، وثقةٌ كبيرةٌ أنَّ طاقتَها من الصبْر لنْ تنفد رغم تحذير "أم كلثوم" الجدِّيِّ لها كلَّ مساء لـ"الصبر حدود". على المقعد الرخاميِّ في المحطة لم تزل تركِّبُ صور المارَّة من الذكور في سنِّ الزواج على أحلامِها الوارِدَةِ بشكل مفصَّلٍ في أغنية "العيون السود"، ولما يكون المقاس، غالباً، أقصر بكثير، تتجاهَلُ جلوس الرجل الحلْمِ بجانبها أو سؤالِهِ لها عن الوقت إنْ كانَ متقدِّماً أو متأخِّراً أو أنَّ توقيتَهُ يكون باتجاه "كلام الناس"!
تذهَبُ إلى العمل بعدَ أنْ تصحو مبكِّراً، وتمضي وقتاً طويلاً أمام المرآة لتتأكَّدَ من مفعول "قناع الخيار" على تفتيح بشرَتِها التي تعرَّضت لأسباب تراكميَّةٍ إلى الشُّحوبِ، ثمَّ تقومُ بوَضْع المكياج وفقَ خطواتٍ موثوقَةٍ لا تقودُ إلى هَرَمِ البشرَة قرأتْها على نشرة "YAHOO" الخفيفة، كما تأخُذُ بعين الاهتمامِ الملاحظاتِ التي أبداها الزميلُ العازبُ في حوارٍ عابرٍ في "الكافتيريا" حول مقاييسه للجمالِ الذي لا ينالُ هو مِنْهُ أكثر مما يَحظى الفقيرُ من الجَمَلِ..؛ أذنه وأحد أطرافه!
تعودُ مخذولةً إلى البَيْت بسبَب محاولاتٍ لم تتأكد من جديَّتِها قام بها "الرجل الغامض بسلامته" لاستمالَتِها من صفحة "فيسبوكية" مَجْهولَةٍ. لكنَّ اليأسَ لا يتمكَّنُ مِنْها تماماً، تُساهِمُ في إعداد الطعام بمراحِلِه الأخيرَةِ، ثمَّ تَخْطر ببالها حيلة "نسوية" مكشوفَةٌ، تقودُها إلى أنْ تصوِّرَ الطعامَ بكاميرا هاتفها المحمول، ثمَّ تضعُ صورةَ "شهيَّةً" على صفحَتِها الخاصة لتبرْهِنَ على فنونِها في الطهيِ التي ستقودُها حتماً إلى معدة الرجلِ حينَ يصيرُ واضحاً. لا تجدُ تجاوباً مباشراً، أكثر من "like" فاتِرٍ، تستنفد كلَّ حيلِها بوضع الأغنياتِ التي تصِفُ دلالَها، ثم تُتْبِعُها بصوَرٍ شبْهِ عاريَةٍ لـ "جنيفر لوبيز"، ليأخَذَ المتلقِّي فكرَةً تقريبيَّةً عن جمالِها، لاعتقادِها الخالي من الشكِّ أنَّها واحدة من الأربعين اللواتي يُشْبِهْنَها. لا شيءَ يُجدي، فتحاول إيهامَهُ أنَّها قد ترتبطُ عما قريبٍ فتُغيِّر حالتَها الاجتماعيَّةِ إلى "مرتبطة"، ثمَّ تُعطيهِ بعضَ الأمل بأنْ تحوِّلَها إلى "الأمر معقد"، قبلَ أنْ يصبحَ واقع الحال "شديد التعقيد"!
تجلسُ الآن، وبعد الآن، على المقعد الرخاميِّ في "المحطة". لم تعُدْ تحفَل بقدوم قطارٍ جديدٍ، ونزول كلِّ ركَّابه من الرجال اللائقين والمقترحين كرأس ثانٍ للحلال على "الوسادة الخالية"؛ فلا قسمَتها عادلة، ولا نصيبها مكتملٌ. كلُّ شيءٍ يتوقَّفُ اكتمالهُ على أنْ يطلبَ رقم مجهول هاتفَ والدِها، ويكونُ على طرَفِ المكالمَةِ الآخر شابٌ ثلاثينيٌّ عصاميٌّ يرجو أنْ يسمحَ وقته بأنْ يأخُذَ معهُ الشايَ هذا المساء..؛ وذلك المساء جلستْ تستكمِلُ الجزءَ الأخير من حلم اليقظة الذي من المفترضِ أنْ يطرق فيه بابَ بيْتِها رجلٌ مكتملٌ، و"جاهز من كلِّ شيء"، و"جاد وملتزم"..، و"شاري"!
انتهى الحلمُ وكرَّرَتْهُ مرَّةً، ومرَّتين، وما تزالُ هي فتاة مُهذَّبَة وصاحبَة كبرياءٍ، لا تُخوِّلُها التربيَةُ الشرقيَّةُ لأكثر من نظرَةٍ مستقيمَةٍ في حالةِ طلبِ الحقِّ..؛ وليْسَ من ذلك الحق أنْ تبادرَ بالقوْل الصّريحِ في منتصَفِ الحَديثِ مع رجُلٍ مُكتَمِلٍ:"أريدُكَ زوجاً"!

[email protected]