أزمة العرب ومعنى التخلف (17)

أ. د. كامل صالح أبو جابر*

ينطلق البحث في حوار الحضارات، من محاولة لتجميع الخيوط، بغية التعرف على ما يجري داخليا، كما التعرف على النسيج الذي يحاك حولنا خارجيا. إذ إن تسارع الأحداث يبقينا في حال من عدم التوازن، جعلنا بدوره غير قادرين على تبصر الأمور، كما ديمومة الارتجالية ورد الفعل. فكل حدث مفاجئ يقودنا للتأرجح ما بين العتب والغضب. فنريد للأمور أن تتغير من دون أن نغير ما في النفوس. وهكذا نستمر في النظر إلى بعضنا بعضا من منظار تراثي ملّي، لا يأخذ بعين الاعتبار تغير الظرف والزمان، ولا المقاييس العقلانية.اضافة اعلان
مثل هذا التحليل لا ينطلق من فرضية وجود مؤامرة علينا، ولا من شعور هستيري بأننا مطاردون مستهدفون، بمقدار ما أنه محاولة لتلمس أبعاد ما يحل بنا وحولنا. فتسارع الأحداث وتواصلها، وتتالي المصائب وتراكمها، أفقدنا القدرة على التركيز، بحيث أصبحنا غير قادرين على ربط الأحداث بشكل يسهل مهمة، لا بل ونتعامل مع كل حدث وكأنه حدث أو مفاجأة جديدان لا علاقة لهما بما سبقها!
إن النظرة التحليلية، من وجهة النظر التاريخية والمعاصرة كذلك، تشير إلى أن عالمنا العربي، وبالأخص مشرقه الذي يضم فلسطين ولبنان وسوريو والعراق والأردن ومنطقة الخليج، في خطر كبير، حتى قد يكون مرشحا للتغييب، وربما القضاء عليه سياسيا بشكله الحالي. والشق الآخر لهذا الأمر لربما كان نتيجة وقع عملية التفتيت السياسي هذه، الذي دفع قطاعات سكانية واسعة إلى هجرة معاكسة لنهج الهجرات التاريخية من جوف الجزيرة العربية إلى شمالها، وتحويلها للمرة الأولى في التاريخ، إلى هجرة نحو الجزيرة. وهو أمر مهد له اكتشاف النفط، الذي أدى إلى إحداث هجرات طوعية على مدى الخمسين عاما الماضية، أو هجرات قسرية كما يحدث منذ مطلع الألفية الثالثة.
ما يعتمل في وجدان عالم الغرب من أحاسيس سلبية تجاه العرب والمسملين، تجدد في أعقاب سقوط بيزنطة بيد العثمانيين يوم 29 أيار (مايو) 1453. هذا الحدث الكبير تبعه بعد فترة أربعين عاما فقط، طرد العرب المسلمين من إسبانيا، وبداية عصر الاكتشافات الجغرافية في العالم الغربي، والتي تمثل هدفها الرئيس في الالتفاف حول العالم العربي الإسلامي الذي كان يسيطر على طرق التجارة الدولية التاريخية عبر وحول البحر الأبيض المتوسط. وتزامنت هذه الأمور مع استمرار التخلف التكنولوجي في العالم العربي والإسلامي، والذي كان من أسبابه الرئيسة نجاح الملاحة الغربية في الالتفاف حول البحر المتوسط الذي كان بمثابة بحيرة تركية في عهد الخليفة سليمان القانوني، للوصول إلى أسواق الشرق. وقد كان لهذا الحدث الأثر الكبير على أهمية الشرق الأوسط ومنطقة البحر المتوسط؛ إذ فقدت جراءه مكانتها المتوسطة على طرق التجارة العالمية، وقاد إلى إضعافها وإفقارها اقتصاديا، إذ تحول محور التجارة في العالم القديم وانتقل من منطقة الشرق الأوسط، إلى المركز التجاري/ الاستراتيجي السياسي والعسكري حول المحيط الأطلسي.
ويؤكد الأستاذ الدكتور أنور عبدالملك في بحث له حول الأهمية التاريخية لمؤتمر باندونغ (الذي عقد في العام 1955، وكان النواة الأولى لنشأة حركة عدم الانحياز) أن للاكتشافات الجغرافية الغربية هذه أبعادا استراتيجية كثيرة على المنطقة العربية بالذات، ليس أقلها توسع الاستعمار الغربي. الأمر الذي تبعه تهميش وتبعية منطقة الشرق الأوسط بكاملها، وتحويلها إلى جرم يدور في فلك المحور الأطلسي الجديد، وبحيث كان من تبعاتها تسارع تخلف المحور القديم، بالإضافة إلى فقدانه زمام المبادرة منذ ذلك اليوم.
فليس من قبيل الصدفة، إذن، احتدام المواجهة. كما لم يكن من قبيل الصدفة قيام نابليون بالدعوة إلى هجرة اليهود إلى فلسطين. ولا من قبيل الصدفة، كذلك، المحاولات المتكررة للحركة الصهيونية، منذ بداية القرن التاسع عشر، التحرك السريع لاختراق الحضارة الغربية، وتجيير إنجازاتها العلمية والعسكرية والسياسية لصالحها، إلى الحد الذي وصل إليه اليوم.
والوعي بكون الصراع، ومن خلال المنظور التاريخي، هو صراع وجود حضاري، أمر في غاية الأهمية. وبالذات إذا ما أضيف إليه أن لدول الجوار للمشرق العربي أفكارها ومخططاتها واستراتيجياتها التي تتعارض في كثير من الأحيان مع  الغرب. مثل هذا الأمر لم يغفله الساسة الإسرائيليون؛ إذ أكد رئيس وزراء إسرائيل الأسبق ديفيد بن غوريون على ضرورة تحالف إسرائيل مع الدول المحيطة بالصحن العربي المشرقي. وهي الفكرة التي طورها لتصبح نظرية رئيسة (Periphery Theory) وقاعدة مهمة من قواعد السياسة الإسرائيلية، الأمر الذي يفسر إلى حد بعيد كذلك العلاقة الجيدة التي قامت بين إسرائيل وإيران الشاه، وهيلاسيلاسي الحبشة، كما الدولة التركية.
والإشارة إلى دول الجوار لا تعني بأي حال من الأحوال أخذ مواقف سلبية تجاهها، بمقدار ما تهدف إلى ضرورة التحوط لأمور نرجو ألا تقع. فمن الملاحظ مثلا أن تركيا وإيران وإسرائيل، دول تعتقد أن لها مهمة تاريخية (Manifest Destiny)، إضافة إلى أن تركيا وإيران، وعلى الرغم من الإسلام المشترك بينها وبين العرب، تعتمدان سياسات تحاول أن تعزز من طاقتها باتجاه  المهمة التاريخية التي تعتقدان أنها من نصيبهما، وعلى حساب العرب الأكثر ضعفا.
تقول ريجينا الشريف في كتابها "الصهيونية غير اليهودية" (Non-Jewish Zionism: Its Roots in Western Theology, London, Zed Press, 1983): إن تجيير إسرائيل لإنجازات الحضارة الغربية لصالحها، والاتحاد السوفياتي جزء منه، أهم عناصر قوتها. إذ ليس من قبيل الصدفة أن الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي تسابقا العام 1948 للاعتراف بإسرائيل، وتقديم السلاح لها، كما الرجال من خلال فتح أبواب الهجره إليها.
ويؤكد هالفورد مكندر، الذي كان من غلاة التوسع الاستعماري في أعقاب الحرب العالمية الأولى، أن البحر الأبيض المتوسط أصبح منذ ظهور الإسلام "خندقا حدوديا" يفصل ما بين دار الإسلام من جهة والعالم الغربي من جهة أخرى. وإن هذا الخندق منع العالم الغربي على مدى قرون طويلة من التمدد والتوسع.
ومثل هذا الخندق أشار إليه صمويل هنتنغتون بعد عقود، حين سماه بالحدود "الدامية" بين الغرب والإسلام. ويؤكد مكندر أنه على مدى ما يقارب الألف عام، بقي العالم الغربي "حبيس" العرب، إلى أن تم الالتفاف حول "المتوسط" بالاكتشافات الجغرافية. ويقول مكندر في أحد كتبه (Democratic Ideals And Democracy, New York, Norton Press, 1962, PP 38-53 and 172-174, Passim)، إن من يسيطر على أراضي العالم القلب (The Heartland)، والتي يسميها "الجزيرة العالمية" وتضم آسيا وأفريقيا وأوروبا، يسيطر بالتالي على العالم. وإذا ما كانت هذه "الجزيرة العالمية" مركز الإنسانية التاريخي على هذه الأرض، وإذا ما كانت بلاد العرب الممر من أوروبا إلى الشرق والجنوب هي وسط هذه الجزيرة العالمية، فإن مدينة القدس الجبلية هي المركز والوسط الاستراتيجي لهذه الجزيرة العالمية. وتوضح إحدى الخرائط الصليبية أن القدس هي الوسط الهندسي و"سرة" العالم. وهكذا يؤكد مكندر على ضرورة قيام أميركا وبريطانيا بالسيطره على العالم، واستخدام اليهود "المؤهلين" كما يقول، "للعمل الدولي" لهذا الغرض. ويضيف أن تأسيس دولة إسرائيل ربما هو أحد أهم نتائج الحرب العالمية الأولى، كونها تقوم على تقاطع الوسط التاريخي والجغرافي للجزيرة العالمية.
إذن، ما يجري على ساحة العرب منذ بداية القرن التاسع عشر، ليس سلسلة من المصادفات أو الأحداث المتناثرة التي لا ارتباط بينها؛ بل هي أمور تسير في إطار رؤية استراتيجية تاريخية، قد تتبدل وسائلها وتكتيكاتها أو تتراجع أحيانا، لكنها تسير على الأمد الطويل في الاتجاه نفسه.

*وزير سابق