أزمة الكتابة

مع ثورة الاتصالات، وفتح المجال أمام الملايين لكي تكون لديهم منابر، مع أن غالبيتهم حمقى على رأي الروائي الإيطالي إمبرتو إيكو، بات من الضروري امتلاك معايير حقيقية للحكم على أهمية ما هو مكتوب من حيث جودةُ المحتوى وعمقُه.اضافة اعلان
على اختلاف أنواع الكتابة التي تزخر بها اليوم العديد من وسائل الإعلام والمنصات، والمدونات ومواقع التواصل الاجتماعي، يتبدى مقال الرأي كواحد من الأشكال الأكثر حضورا، كما لو أن هذا الفن الكتابي “مطيّة سهلة” في اعتقاد عديمي الموهبة، ما يتيح لهم الحق في “التجريب” فيه، وأحيانا تلويث الفضاء بالهرطقات التي لا معنى لها.
في العالم الثالث، بما فيه العالم العربي، يسري اعتقاد غاشم أن مقال الرأي هو في الحقيقة مجرد صراخ، وتغييب للحقائق لمصلحة حالة إنشائية تتمركز حول الخطاب الذي لا طائل منه، والذي عشنا في كنفه منذ “تجوّع يا سمك”، ومنذ أسس الإعلامي العربي في كنف النازي هتلر يونس بحري صيغته الأولى لاقتراح ما يتوجب أن يكون عليه الإعلام، ليكمل المصري أحمد سعيد “دليل الكتابة العربية”، بـ”مونولوجاته” المحفوظة في ذاكرتنا حتى اليوم، وختمتها هرطقات وزير الإعلام العراقي السابق أحمد سعيد الصحاف عن العلوج!!
حتى اليوم، ما تزال مقالاتنا تصنف الآخر على أساس الأصدقاء والعلوج، بينما تبقى عاجزة عن تقديم أي شيء ضمن سياقات المنطق والمعرفة، والتي من الممكن أن يقود إليها التحليل الحصيف الذي يأخذ بالمعطيات الأولية ليبني عليها ما يمكن أن تكون نتائج موضوعية.
تغيب حقيقة بناء المقال عن كثيرين، ولا يعلمون أنه حتى عندما نريد أن نقدم نقدا لافتتاح شارع ما في قرية منسية، توجب علينا استدراج المنطق نحو بناء المعرفة الضرورية. لا يمكن أن يظل الصراخ حاكما لجميع ما يمكن للعقل أن يحتكم إليه!!!
في العالم العربي، نادرا ما يتم الالتفات إلى مهام العقل، لذلك بقينا منذ قرون “متصالحين” مع عواطف لا تفينا الحاجة لبناء مجتمع علمي حقيقي ما دامت متشبثة بـ”شواهد” غير قابلة للانقسام.
بصراحة، لا أريد أن أكون تنظيريا يبتعد عن المباشرة، فالأمر جد خطير. لكن ازدياد عدد كاتبي المقال ممن لا يمتلكون أي مؤهل ولا موهبة، ينذر بتحقق مقولة “تسيد القوم شرهم”، وهي مقولة ترصد اعتلال معادلة المعرفة في المجتمع. لا يمكن لمجتمع يتسيده الأشرار أو الأميون أن ينطلق إلى رتبة أكثر أهمية عما هو عليه، بل على العكس تماما، فهو مرشح لمزيد من الانحدار والتردي!!
إذن، كيف يمكن أن نداري سوءات قلة المعرفة ونحن نتنطح لكتابة المقال الذي نريده هاديا للمجتمع؟!
ببساطة، أن نقاوم إن نحن امتلكنا المعرفة، أو أن نتوارى ونذهب إلى التلاشي في حال اعتبرنا أنه ما من شيء نقدمه في سياق الربح والخسارة والمعرفة.