أزمة النخبة

على وقع الاحتجاجات الشعبية، وحالة الإحباط التي تنتاب قواعد عريضة من المجتمع على خلفية الأوضاع الاقتصادية الصعبة واستعصاء الإصلاح السياسي المزمن يبرز دور النخب السياسية وتحديدا المتقاعدة بصورة تبدو وكأنها تجدف عكس كل التيارات فلا هي قادرة على تشكيل روافد للدولة بمؤسساتها التنفيذية والتشريعية؛ ولا هي قادرة على الاقتراب من نبض الناس وحاجاتهم كما هو الحال في عجزها عن تشكيل رؤية ثالثة تخترق السائد، وتقدم خبرتها في مرحلة حرجة تحتاج إلى خيال جماعي جديد ومنتج يطمئن الناس ويعمل على الدفع نحو إزاحة في الأوضاع القائمة، ولو بالأفكار والمواقف. شهدت الأسابيع الماضية سلسلة من التعبيرات التي أطلقها رموز هذه النخبة التي زادت من تعقيد المشهد وإضفاء المزيد من التوتر في الحالة العامة، بعض وجهات النظر ترى في تلك التعبيرات السياسية انها لا تتجاوز المناكفات السياسية التقليدية؛ لكن ثمنها يبدو هذه المرة اكثر وقعا نتيجة شدة الصعوبات الراهنة، والبعض الآخر يرى ان هذه الطبقة السياسية غير متصالحة مع الضمير الوطني العام وأنها تتحمل المسؤولية اكثر من الحكومة الحالية التي تلقت نتائج من الاخفاقات وضعف الكفاءة العامة واشكال متعددة من الفساد والترهل مارسته تلك النخب حينما كانت في السلطة، ولسان حال بعض أطياف الرأي العام لماذا لم تفعلوا؟ وأين كنتم؟. ثمة غموض في العلاقة بين النخب المحافظة ومؤسسات الدولة السيادية ونخبها والنخب التي تدور حولها، وبين هياكل الدولة الديمقراطية الناشئة ونخبها أي من يصفون أنفسهم بالإصلاحيين ومن يدور حولهم، ومنذ أكثر من عقدين يوجد ممثلون لهياكل الدولة الديمقراطية ودعاة الإصلاح داخل سلطات الدولة إلى جانب القوى المحافظة، لكن اليوم لا يوجد توافق الحد الأدنى على تعريف الإصلاح السياسي وأدواته، ما أدى إلى عدم ترسيخ علاقة واضحة الملامح أي مسار لبناء الثقة المتبادلة، فما يزال طرفا المعادلة يتشككون في نوايا ومواقف الطرف الآخر، وكل منهما لا يمنح الطرف الآخر مساحة لمساهمة تخدم استكمال بناء النموذج الديمقراطي وخدمة الصالح العام. تاريخيا، شهد الأردن انقسامات حادة في مزاج النخب داخل السلطات وعلى هوامشها بما فيها النخب المتقاعدة، تمثلت تلك الانقسامات في اختلافات حادة على الخيارات السياسية والاقتصادية ولم تخل تلك الانقسامات من المناكفات ايضا، ودوما كانت مؤسسة العرش ممثلة بجلالة الملك قادرة على احتواء الجميع وتحويل تلك الخلافات الى قوة دافعة للمسير للأمام بل احيانا قوة حيوية تعكس مبدأ الدولة للجميع، وبمراجعة بسيطة للتاريخ نلاحظ هذه الحالة منذ ستينيات القرن الماضي حتى يمكن ان يؤرخ لمدارس في السياسة الأردنية مثلتها تلك النخب حينما كانت في السلطة او خارجها. هناك شك في أن ما يحدث اليوم استمرار للحالة التقليدية، فالتعبيرات السياسية الراهنة، اقل ما يقال حولها انها انقسامية اكثر من كونها بنائية، وتحمل أبعادا شخصية أكثر من كونها مشغولة بالهم العام. هناك الكثير من السمات والملامح اليومية التي تسهم بوضوح في حالة الانقسام نتيجة غياب الهدف المشترك، فالكل يعمل ضد الكل، وثمة صراعات نخبوية واجتماعية لا تنتهي محصلتها صفر على الجميع، وثمة ثقافة سياسية فسيفسائية تشكل وعي الأجيال المسيسة الجديدة. النخب السياسية التقليدية التي تشعل الفضاء العام هذه الأيام لا يوجد لها روافع ولا قواعد متينة داخل المجتمع، والنخب الجديدة لم تتمكن الى هذا الوقت من بناء شرعية في الانجاز ولم تخلق طمأنينة لدى الناس بنهجها، في بلادنا ثمة ضحالة وفقر في خلق ثقافة التوافق في اللحظات الحرجة بل يزداد الانقسام عكس ما يحدث في الكثير من المجتمعات، نحتاج اليوم الى المزيد من الطبخ السياسي كي ننضج، كي نخلق الهدف الوطني الكبير الذي يلتف الجميع حوله، حينما تكون البنى المؤسسية هشة تعمل الانقسامات السياسية على تهشيم الدولة بصورة صادمة؛ فاحذروا.اضافة اعلان