أزمة تعاون في العلاقات الدولية

تباين المصالح العالمية في شاخصتين رمزيتين - (أرشيفية)
تباين المصالح العالمية في شاخصتين رمزيتين - (أرشيفية)

زكي العايدي*


باريس- أدى صعود الاقتصادات الناشئة العالمية إلى الكثير من التفاؤل، ليس فقط في مجال التنمية الاقتصادية، وإنما أيضاً في مجال التعاون الدولي. لكن التحول إلى نظام عالمي متعدد الاقطاب لم يؤد إلى تدعيم التعددية. وفي واقع الأمر: كان العكس هو الصحيح. فقد عاد منطق السيادة الوطنية، حيث تقوم الاقتصادات الكبرى باستمرار بتقويض التعاون فيما يتعلق بقضايا تمتد من الامن إلى التجارة إلى التغير المناخي. اضافة اعلان
في هذا الصدد، يمكن النظر إلى الفوضى السائدة في مجلس الأمن الدولي فيما يتعلق بالحرب الاهلية في سورية، علما بأن المجلس وافق قبل عامين فقط على قرار بتفويض تدخل عسكري في ليبيا، وهو اول قرار يطبق مبدأ مسؤولية الحماية الذي تبنته الجمعية العامة بالاجماع سنة 2005.
لكن القوى الصاعدة سرعان ما بدأت تعتقد بأن الغرب استخدم فكرة حماية المدنيين الليبيين كحجة من أجل تغيير النظام (من الناحية الواقعية، كان من المستحيل حماية الشعب بدون إسقاط حكومة معمر القذافي). والآن، ترفض هذه البلدان بشكل عام تطبيق مبدأ مسؤولية الحماية، وتنظر إليه على أنه أداة توظفها الحكومات الغربية من أجل شرعنة محاولات انتهاك السيادة الوطنية.
حاولت البرازيل التعامل مع هذه المسألة عن طريق صياغة قرار يفك الارتباط بين تفويض حق الحماية وبين استخدام القوة -وهو ما يلغي فعلياً أي احتمالية لتطبيق هذا المبدأ. أما روسيا والصين، فقد أعاقتا صدور ثلاثة قرارات تدين النظام السوري، وعملت روسيا بجد -بنجاح ظاهر- على تعطيل أي تدخل عسكري في سورية. وبهذا المعنى، فإن روسيا والصين تمارسان الآن سيطرة فعلية على الشرعية الدولية الرسمية المتعلقة باستخدام القوة.
في واقع الأمر، هناك العديد من البلدان التي تعتقد الآن بأن الغرب بالغ في تحدي سيادة الدول، حتى إن هناك دولا أوروبية مثل ألمانيا، والتي تنفر من إمكانية حدوث مواجهة عسكرية. وفي قمة العشرين التي انعقدت في أوائل أيلول (سبتمبر) على سبيل المثال، عانى الرئيس الأميركي باراك أوباما كثيراً حتى تمكن من إقناع عشر دول بالتوقيع على إعلان يتعلق بسورية، والذي لا يشير حتى إلى استخدام القوة. وليس هناك سوى الولايات المتحدة الأميركية والمملكة المتحدة وفرنسا هي التي ما تزال راغبة باستخدام القوة ضد سورية إذا اقتضت الضرورة.
لكن النظر إلى التدخل في سورية وفق نموذج عقيدة الخلاص الغربية هو خطأ. ففي سورية، كما كان الحال في ليبيا، لم تكن القوى التي تتحدى الحكومة من صنع التلاعب الغربي، وإنما هي قوى محلية تطلب مساعدة الغرب. وربما يكون الأساس القانوني للتدخل العسكري ضعيفاً، ولكن سورية تختلف عن العراق كذلك.
ليس الأمن هو المجال الوحيد الذي تتفوق فيه مخاوف السيادة على التعددية. ففي سنة 2008 تخلت الولايات المتحدة الأميركية عن التزامها بجولة الدوحة من مفاوضات التجارة العالمية، المتعلقة بمنظمة التجارة العالمية. وبالرغم من أن القرار جاء بعد خلاف فني مع الهند، فقد كان الدافع الرئيس وراء القرار هو اعتقاد أميركا بأن أي اتفاق سوف يفيد الصين أكثر من الولايات المتحدة.
ونظراً لفشل جولة الدوحة في التعامل مع المشاكل الرئيسة التي واجهتها الولايات المتحدة الأميركية واوروبا في علاقاتها التجارية مع الصين -عدم التقيد بقوانين الملكية الفكرية والدعم للمؤسسات التي تملكها الدولة واسواق المشتريات الحكومية المغلقة والقيود على امكانية الوصول لسوق الخدمات- أصبحتا تؤكدان الآن أهمية عقد اتفاقيات تجارية ثنائية. ولكن، بينما يتظاهر العالم بأن التعاون الثنائي يمكن أن يعيد تنشيط التعددية، فإنه لا يجب أن ينخدع أحد بذلك. سوف تبقى منظمة التجارة الدولية، لكن أهميتها بالنسبة للنظام التجاري تتناقص بشكل سريع.
وحتى التعاون المتعلق بالتغير المناخي يمر في حالة انهيار، حيث ترفض الولايات المتحدة الأميركية والصين المقاربة متعددة الاطراف التي تأتي من الأعلى والمتعلقة بصنع السياسات. وهذا يوحي بنهاية نموذج بروتوكول كيوتو، والذي مثله مثل نموذج الدوحة، مبني على أساس أجندة مفصلة ومصممة على اساس اهداف محددة وطموحة مع جميع اللاعبين ذوي العلاقة، ومن ثم يتم إجبارهم على التفاوض على كل موضوع.
بدل أن تخضعا لمقاييس متفق عليها عالميا، تريد الولايات المتحدة الأميركية والصين أن يجري النضال ضد التغير المناخي بوجود التزامات فردية للدول. لكن هذا الاطار الجديد المبني من الاسفل إلى الأعلى، والذي تحدد بموجبه الدول الشروط المطلوبة للتوصل لاتفاقية متعددة الاطراف، يفتقر لوجود السيطرة على عمل المقاييس.
تستوجب التعددية أدنى حد من الإجماع على القواعد والمعايير الدولية بين جميع القوى. وكلما زاد عدد البلدان التي لديها القدرة على إعاقة المبادرات العالمية أو استخدام الفيتو بشأنها، أصبحت التعددية اكثر صعوبة بحيث لا يتوفر للدول المهيمنة الحافز للتعاون. إن إحراز تقدم في حل القضايا العالمية في هذا  العالم الناشئ متعدد الأقطاب، والذي يتضمن مخاوف تتعلق بالسيادة وتنافس استراتيجي، سوف يصبح اكثر صعوبة من أي وقت مضى، مع إمكانية نشوء عواقب كارثية.

*أستاذ العلاقات الدولية في معهد الدراسات السياسية في باريس ومؤلف كتاب الإنجازات المحدودة: سياسة أوباما الخارجية.
*خاص بــ"الغد"، بالتعاون مع "بروجيكت سنديكت" 2013.