أساليب التفكير التي لم تعد تصلح لعالم متغير

بعد أن هدأت نوعا ما العاصفة الإلكترونية في عالم التواصل الاجتماعي المتحرر من القيود والضوابط، لموضوع الحوادث التي حصلت في فرنسا وفيينا، وأمسكت نفسي عن عدم الخوض على مواقع التواصل في هذا الموضوع لما لها من دور في تعاظم وتأجيج بسهولة ويُسر مشاعر وآراء متنوعة، ذلك ربما كسخط ناجم عن الحَمية الأخلاقية، أو رغبة في ترويج وجهة نظر شخصية، أو بغية للظهور كمصدر لمعلومات جديدة. وهناك الكثير مما ينشر، إذا ما تفحصناه بدقة، نجده يعمل على تعميق الفجوة بين الانقسامات الاجتماعية، وتأجيج الخلاف بين المجموعات المُتخاصمة، واستمرارية النزاع، ويقضي على احتمالات التوافق والبحث عن حُلول. وبعيدا عما يدور على مواقع التواصل، فالأساس هو ألا يسمح لطوائف الارض المختلفة، والمعتقدات الدينية المتعددة أن تغذي نعرة العداء بين الناس. فهذه المبادئ والأحكام، وهذه النظم الراسخة القادرة القاهرة، قد نزلت من مصدر واحد، وهي أشعة إشراق واحد. وما اختلاف إحداها عن الأخرى الا للإيفاء بمتطلبات العصور التي جاءت فيها الأديان. وإذا ما تولد الصراع والنزاع والكراهية باسم الدين بين البشر، فإن ذلك راجع لتشدد الإنسان وتفسيراته القابلة للخطأ، والتي يمكن التغلب عليها من خلال البحث عن الحقيقة الإلهية التي تكمن في جوهر كل دين. فالتعصب الديني من شأنه أن يكون سدا منيعا أمام تقدم البشرية ورفاهيتها وهو تعصب إلى جانب أمور أخرى كثيرة، يتغلغل في بنيان المجتمع وينطبع في الوعي الفردي والجماعي بأسلوب منهجي. وفي حقيقة الأمر غالبا ما يتم تعزيزه واستغلاله عن عمد عن طريق التلاعب بالمشاعر والترويج باستخدام أساليب تتجاهل الحقيقة وتحقيق الأجندات مسخرة لمصالح ذاتية تخدم منفعة سياسية أو غيرها. ومع استمرار النضوج والوعي البشري سيتخلى، مع مرور الوقت، عن أساليب كهذه في تقسيم الناس من أجل ترويج أجندات لا تفيد سوى فئات أو شرائح معينة داخل المجتمع على حساب الآخرين، وتوجيه الجماهير نحو ذلك التحزب والتعصب اللذين يقوضان أركان أي مجتمع حيث إن التعصب الديني يعوق إصلاح العالم. ومن خلال مشاركاتي المتواضعة والتي امتدت لأكثر من عقد من الزمان في أنشطة حوارات الأديان محليا ودوليا، إلا أنها ما تزال غير كافية للتصدي بفاعلية للتحدي المتنامي الذي يفرضه التعصب والتطرف الديني وهناك حاجة للمزيد من الجهود وتقييم الاستراتيجيات المتبعة سابقا. ففي كل يوم يمر بنا يتفاقم الخطر من ان النيران المتصاعدة للتعصبات الدينية سوف يستعر لهيبها وتحرق العالم مخلفة آثارا مدمرة لا تخطر ببال احد. ولعل استمرارية أحداث التطرف وتتابعها فتحا أعين الحكومات والشعوب على واقع ليس بجديد ولكنه قديم ما تزال تداعياته متجذرة فيها وهي إذ لا يمكن لها مواجهة شبكات منظمة من الجماعات المتطرفة تحمل فكرا متطرفا ولكنها في مواجهة مع حالة اجتماعية سائدة ومع أشخاص عاشوا في قوقعة وتبنوا افكاراً متطرفة، لهذا فإن طريقة التعامل مع الموضوع صعبة للغاية ولا يمكن اختزالها بمقال فهي متشعبة جدا. فالمواجهة وحظر الجماعات وملاحقتها لا تضيف شيئا لاجتثاث جذور مشكلة التعصب بمختلف اشكاله العرقية منها والدينية والسياسية من الاتجاهات اليمينية واليسارية المتطرفة في العالم إلى تيارات التشدد الديني التي نشطت خلال مواقع التواصل الاجتماعي. فالحلول تبدو مرهقة وتحتاج لأدوات جديدة ووعي جماعي بمستقبل البشرية وتضحيات بأساليب بالية لم تعد تصلح للولوج في عالم يعصف بمتغيرات أيديولوجية وعقائدية قد رأيناها بأم أعيننا في ازمة فيروس كورونا. واخيرا، بما ان هذا مقالي الأول بعد وفاة والدي رحمه الله برحمته، فهو الذي كان يقرأ مقالاتي بعين الناقد وليس الأب، فقد كان كارها للتعصب ومتفتحا ذهنيا بإجماع من عرفوه الذين كانوا يلقبونه بالمواطن العالمي.اضافة اعلان