أسباب قضية ظلم المرأة الأوروبية (3)

figuur-i
figuur-i

أسامة شحادة

نواصل استعراضنا للأسباب الأربعة لمشكلة المرأة في أوروبا، والتي ترتب عليها وقوع مظالم جسيمة بحق المرأة هناك، وذلك من خلال نظرة المؤرخ والفيلسوف الأميركي المشهور ول ديورانت التى سطرها في كتابه "مباهج الفلسفة"، وهذه الأسباب هي:اضافة اعلان
1 - النظرة الدونية الظالمة والمعتدية للمرأة منذ عهد الإغريق واليونان ثم تسرب ذلك لليهودية والمسيحية ومِن بعد لفلاسفة التنوير والحداثة!
2 - انحراف مفهوم الزواج وتطبيقه بشكل مختل ومجحف بحق المرأة في أوروبا.
3 - الثورة الصناعية وظهور الرأسمالية التي استغلت المرأة بدعوى تحريرها وهي في الحقيقة تراكم ثرواتها وتصفي حساباتها مع احتجاجات العمال الرجال!
4 - الحرب العالمية الأولى التي أفنت ملايين الرجال وغيّرت تركيبة المجتمعات الأوروبية.
وقد سبق لنا الحديث بتفصيل حول السبب الأول وهو النظرة الدونية الظالمة للمرأة من عهد الإغريق واليونان ثم تسرب ذلك لليهودية والمسيحية ومن بعد لفلاسفة التنوير والحداثة! ثم بيّنّا كيف كان انعكاس ذلك على السبب الثاني وهو: انحراف مفهوم الزواج وتطبيقه بشكل مختل ومجحف بحق المرأة في أوروبا.
واليوم نواصل عرض تأثير السببين الأوّلين في ظهور السبب الثالث من أسباب قضية ظلم المرأة في أوروبا بحسب رؤية الفيلسوف ديورانت للسبب الثالث المتمثل في: الثورة الصناعية وظهور الرأسمالية التي استغلت المرأة بدعوى تحريرها وهي في الحقيقة تراكم ثرواتها وتصفي حساباتها مع احتجاجات العمال الرجال!
من المعلوم أن أوروبا حين بدأت تنهض في القرن الخامس عشر الميلادى نتيجة تجاوز المنطق الأرسطي بفضل النقد الإسلامي وخاصة النقد التيمي (نسبة لشيخ الإسلام ابن تيمية) ومن ثم ظهرت الحركة الإصلاحية على يد مارتن لوثر الذي استفاد كثيراً من الإسلام وتراثه، بدأت أوروبا تتبدل وتتغير موازين القوى فيها.
فأخذت قوة الكنيسة والإقطاعيين تضعف لصالح قوة الحرفيين وأصحاب المال (البرجوازية) وتعاظمت قوة البرجوازية مع الثورة الصناعية التي غيرت طبيعة المجتمع اقتصاديا بحيث تضاءلت الحرف والصناعات المنزلية التي تتم بشكل يدوي من قبل العائلات في الريف لصالح تضخم دور المصانع ومنتجاتها في المدن، وترتب على هذا تغير كبير في تركيبة المجتمع، وخاصة على صعيد الأسرة وهو ما سنتناوله لاحقاً.
في البداية، استقطبت المصانع الرجال لأنها تحتاج إلى عقولهم وعضلاتهم، لأن النظرة الأوروبية العامة تجاه المرأة هي نظرة احتقار لقوتها العقلية والعضلية، وفي ذلك قال ديورانت: "أما أن يكون للمرأة حق العمل في مصنع، أو شرف العمل في مصنع فشيء لم يخطر على بال أي رجل"، (1/201).
ولكن حين تزايد جشع الرأسماليين من أصحاب المصانع وأخذوا يستغلون العمال لأبشع درجة من العمل لساعات طويلة ودون رعاية صحية أو رواتب مجزية أو عطل مدفوعة أدّى ذلك لحركات احتجاجية تفاقمت لحد الإضراب عن العمل بتحريض من القوى الشيوعية والاشتراكية المناوئة للرأسماليين.
ولأن الرأسمالية لا تكترث للأخلاق والمبادئ –وكذلك الشيوعية- فقد لجأ أصحاب المصانع لاستقطاب النساء للعمل بدلاً من الرجال! لأن الكثير من العمال غادروا قراهم نحو مصانع المدينة وتركوا النساء خلفهم مما ولد حاجةً للعمل لدى كثير من النساء.
وفي هذا يقول ديورانت: "دفعت الثورة –يقصد الصناعية- إلى تصنيع النساء على نطاق لم يعرف من قبل ولم يحلم به. كن عاملات أرخص من الرجال، وكان صاحب العمل يؤثر توظيفهن على الذكور الأغلى أجراً والأكثر ثورة" (1/202).
وهنا نلاحظ أن الثورة الصناعية والهجرة للمدن خلقت مشكلة للنساء وهي الفقر والحاجة وتفكك الأسرة وعزوف الرجال عن الزواج بسبب الهجرة لمصانع المدينة، لأن الصناعات المنزلية التي كانت تحتاج إلى تكوين أسرة ممتدة وإنجاب الأولاد ليساعدوا في الزراعة والصناعة لم تعد مجدية، حيث عزف الرجال عن الزواج والإنجاب وتفاقمت الإباحية كما يقول ول ديورانت: "أخّر قيام نظام المصانع الزواج لأنه جعل الفرد غير آمن، وازدادت الإباحية بهذا التأخير الداعر، وبإلقاء الملايين من الناس في بحر حياة المدنية" (1/133)، ويقول أيضاً: "قد يمكن أن يظل البيت قائما لو أن الأطفال كانوا يملأونه.. غير أن الثورة الصناعية قد انتزعتهم بعيداً جداً، ذلك أن الأطفال .. أصبحوا عائقا في المدينة المزدحمة والشقة الضيقة .. لذلك وجب أن يحد من الإكثار من النسل … وحيث يزيد كل طفل جديد في أجرة البيت" (1/204)، وما تزال هذه المشاكل من العزوف عن الزواج أو تأخيره وقلة الإنجاب بسبب ارتفاع التكاليف وانتشار الإباحية مشاكل تلازم كل مجتمع يتطور على النسق الأوروبي أياً كان موقعه أو زمانه.
والغريب أن الثورة الصناعية حين عالجت هذه المشكلة على طريقة الرأسماليين فسمحت للنساء بالعمل للتعويض عن الرجال استغلت حاجة النساء للعمل فشغلتهن في نفس الظروف السيئة التي احتج عليها الرجال، وهذا ظلم ساطع! ثم لم تكتف بذلك بل زادت في ظلمهن بأن أنقصت من أجورهن عن أجور الرجال تطبيقاً عملياً للنظرة الدونية الأوروبية للمرأة، وبذلك أصبح لدى المرأة ثلاث مشاكل: فهي بلا زوج وأسرة، وتعمل عملا شاقا ومضنيا ولا يناسبها، وتأخذ أجراً غير عادل بشكل مضاعف!!
وقد وجد الرأسماليون في تشغيل النساء والصغار فرصة لمضاعفة أرباحهم من خلال قلة رواتبهم وعجزهم عن الاحتجاج، فاستمروا على تشجيع النساء على العمل في المصانع بدعوى تحرير المرأة، يقول ديورانت: "كان الرجال في إنجلترا منذ قرن مضى يجدون مشقة في الحصول على عمل، ولكنهم كانوا يقرؤون في الإعلانات دعوة نسائهم وأولادهم يرسلونهم إلى أبواب المصانع. فأصحاب العمل يجب أن يفكروا في صيغ من المكاسب والأسهم، ولا يجب أن تشغلهم اعتبارات الأخلاق والنظم والدول. والرجال الذين تآمروا ببلاهة على "هدم البيت" هم أصحاب المصانع الوطنيين في إنجلترا في القرن التاسع عشر" (1/203).
وحتى يشجع هؤلاء الرأسماليون المجرمون من أصحاب المصانع النساء على العمل في مصانعهم المستغلة للنساء سعوا لتغيير وضع المرأة وتحريرها اقتصادياً كما يقول ول ديورانت: "أول خطوة قانونية لتحرير جداتنا كان تشريع العام 1882 الذي نص على أن نساء بريطانيا العظمى لهن الحق في التمتع بمزية لم تكن لهن من قبل، وهي الاحتفاظ بما يكسبن من أجر.. فرضه أصحاب المصانع في مجلس العموم ليجذب فتيات إنجلترا للعمل في مصانعهم، ومنذ تلك السنة حتى وقتنا هذا ظل الدافع الذي … يجتذب النساء من عبودية البيت إلى رق الورشة" (1/203)، وما أصدق تعبيره: يجتذب النساء من عبودية البيت إلى رق الورشة! حيث كشف حقيقة هذا التحرير المزعوم حين سمح للمرأة بالاحتفاظ بمالها بدلاً من أن يستولي عليه الرجل أو الزوج بدون حق، لكن من أقروا هذا الحق لها تعاموا عن سرقة الرجل صاحب المصنع لتعبها حين أنقص من أجرها!
وفي هذا النص نلاحظ مأزق الرأسمالية حين تفرض مصالحها على جهة التشريع، وهي المشكلة الدائمة في خلط السلطة والتجارة مما ينتج عنه الفساد العريض دوماً.
إذا إن قصة تحرير المرأة من عبودية الزواج بالعمل كما يقول الرأسماليون والشيوعيون هي أسطورة لأنها استبدلت رقاً برق وعبودية بعبودية، ففي الرأسمالية أصبح مالكو المصانع أو المديرون هم المالكون الجدد للمرأة العاملة التي تحرص على طاعته بدلاً من الزوج، وعند الشيوعيين أصبحت الدولة أو ممثلها هو السيد الذي يستحق الطاعة من المرأة!
يلخص ول ديورانت هذا الظلم الحديث الذي تعرضت له المرأة الأوروبية باسم تحريرها بقوله: "فالمرأة المتحررة ثمرة تطورات اقتصادية ليس لإرادتها يد فيها" (1/207)، أما حقيقة هذا التحرير العلماني للمرأة فيقول فيه: "الأغلب أن التحرير جاء عن طريق التقليد، فاصطنعت المرأة واحدة بعد أخرى عادات الرجل التقليدية البالية، حسنة كانت أو قبيحة، فحاكته في تدخينه وفجوره وإلحاده وفي طريقة تصفيف شعره ولبسه السراويل وأدى هذا التقارب بين الرجال والنساء في أثناء النهار إلى تأنث الرجل واسترجال المرأة، وصاغت المهن والبيئة والمؤثرات المتماثلة الجنسين في جنس يكاد يكون واحدا، ولن يمر جيل حتى يصبح من الضروري أن يميز كل منهما بعلامة تمنع الوقوع في مشكلات معقدة يؤسف لها" (1/205).