أسوأ مهنة في العالم

أسوأ مهنة في العالم ان تكون شرطيا في قوات الأمن العراقية، حيث يأتيك رصاص الموت من الأصدقاء الأعداء ومن القريب ومن البعيد ومن حيث تدري ولا تدري وعلى حد سواء، فعلى الرغم ان الموت المجاني يستهدف الجميع في العراق وتتشابك فيه بنادق الأعداء والأصدقاء وتصطدم فيه مفخخات الميليشيات مع مفخخات شركات الأمن الأجنبية.

اضافة اعلان

ومع ان رصاص جيش الاحتلال ينال الجميع وآخرهم أطفال مدرسة السعادة التي لن تكون سعيدة بالتأكيد منذ يوم الثلاثاء الماضي؛ حيث أودت نيران الطائرات الأميركية بحياة خمسة تلاميذ وهم في غرفهم الصفية، ومع كل هذه المآسي فإن محنة رجال الشرطة العراقيين فيما يتعرضون إليه، وفيما يقترفونه من جرائم، تحتاج هذه المحنة الى التوقف.

لا يفوت يوم دون ان تستهدف مقرات ومراكز ومعسكرات تدريب ودوريات رجال الأمن والشرطة العراقية، ولا يفوت يوم دون ان يسجل منهم ضحايا قد يصلون في بعض الأيام الى عشرات ومئات، بالطبع المسألة لا تتوقف في هذا المجال على تبرير هذه الأعمال في سياق الحق الشرعي بالمقاومة وبمدى الأخذ جديا بأنهم أداة من أدوات الاحتلال، بل الأمر الاعمق من هذا وذاك في مدى تمثيل هذه المواجهة لشكل من أشكال الاقتتال والحرب الأهلية من جهة، وقبل ذلك في التحقق الموضوعي من هوية أطراف المواجهة وأهدافهم الحقيقية.

في حين أصبحت سمعة هذه الأجهزة الأمنية الطارئة هي الأسوأ في العالم، وتكفي مراجعة سريعة لتقارير منظمات حقوق الإنسان، ولمئات الشهادات عن صنوف التعذيب والاذلال الآدمي الذي لا مثيل له الذي يلاقيه المعتقلون في زنزانات وزارة الداخلية العرقية وسجونها العتيدة.

المفارقة المؤلمة هي على الصعيد الإنساني تبدو في الحظ العاثر لهولاء الشباب الذين قادهم مصيرهم لهذه المهنة في بلد ربما أصبح أسوأ مكان للعيش في العالم، وأكثر مكان تنتشر فيه البطالة، وأكثر مكان في العالم يمارس فيه الفساد بمختلف أشكاله وألوانه؛ فالعادة تفسد الإثارة إلا في جرائم الموت؛ بالفعل تتفق نظريات كتابة الأخبار على عناصر مشتركة تشكل ما يسمى قيم او معايير الأخبار، أي ما الذي يجعل من هذه الحادثة خبرا من آنية وجدة وفرادة وأهمية وجمهور وغيرها من عناصر تكسرها العادة والتكرار في أي حدث يتكرر يوميا، الا في الموت حينما يكون جريمة. فاستمرار الموت الجماعي في المكان ذاته وتحت وطأة الظروف نفسها يمنح الحدث مزيدا من الجدة والجدية والآنية والأهمية، إلا في الموت العراقي الراهن الذي أصبح في ذيل قوائم الاهتمامات السياسية وفي أواخر النشرات الإخبارية، بل أصبح لازمة يكررها المذيعون تذكر بأخبار الحرب العراقية الإيرانية في أعوام الثمانينيات.

استمرار الموت الجماعي المجاني بهذه الوتيرة المتزايدة يوما بعد يوم اكبر من حجم اللعبة السياسية المحلية وما يظهر منها على السطح من امتدادات للاحتلال، وعلى الرغم من قسوة ما واجهه العراقيون من فتن ومصائب عبر التاريخ ومن حروب واستبداد لعقود مضت، فإن رائحة الموت المنبعثة من مشرحة بغداد تعني أكثر من ذلك وهي وحدها القادرة على تفسير الأحداث ببلاغة وصدق أكثر من صراع النخب السياسية وشغبها، وقادرة أكثر على تحديد مسار الأحداث والى أين تسير الأمور.

هذا الموت والقتل يعني صراعات أخرى تتجاوز بنية السلطة وتقاسمها إلى بنية المجتمع بحد ذاته وتتجاوز المجتمع العراقي إلى بنى وهياكل مجتمعات مجاورة وقريبة تنظر وتنتظر.

تدل العديد من التجارب بأن المشروع السياسي الاجتماعي الذي يؤسس على الخوف الجماعي وأداته الأساسية الموت الجماعي، يؤسس بقوة وسرعة إلى الإقصاء الإرادي وطلب العزلة، لا يمكن التصديق بأنّ التعايش المذهبي والاثني في العراق قبل الاحتلال قابل للاستئناف اليوم مهما كان شكل العراق الجديد بعد كل هذا الموت الجماعي المتبادل, وللأسف فقد دقت آلاف الأسافين وماتزال تدق ولن يكون غريبا ان تطلب - إذا ما ستمر المخطط الراهن- الجماعات المذهبية والاثنية العزلة والانكفاء على الذات، حتى تلك التي تقاوم مشروع الفدرالية والتقسيم، هناك اليوم مدن وقرى تشهد حركة سكانية واسعة من النزوح المتبادل حسب المذاهب والهويات لإعادة تشكيل جغرافيا مذهبية وعرقية جديدة تحت وطأة الخوف الجماعي المتبادل المر الذي جعل من العراق الجديد أسوأ مكان للعيش على المستوى الإنساني وجعل من الشرطة العراقية تمارس أسوأ مهنة في العالم، وتعيش أسوأ ظروف في العالم أيضا. 

[email protected]