أسير آخر لا يموت!

لا يمكن أن يمر استشهاد عرفات جرادات في سجون الاحتلال الإسرائيلي، نتيجة الضرب والتعذيب، هكذا بدون أن تهتز لنا شعرة في "حياتنا"، وقصص الموت تحيط بنا في صفحات الجريدة من كل مكان! ثم إن حرب الأمعاء الخاوية التي يخوضها ببسالة مقاومون فلسطينيون أمثال العيساوي الذي ضرب رقما قياسيا في الصبر والثبات، هو ورفاقه وأهله والمتضامنون معهم، تعطي أعظم درس في الحياة، رغم توفر كل أسباب الموت! وهنا دعونا نتفكر قليلا بفلسفة الحياة، القائمة على الطعام والشراب والدواء، على الرياضة والجمال والرفاهية، على التعليم والسكن والديكور، واللياقة والأناقة، وطرق الاتيكيت في الحياة العصرية، والسينما والغناء والشِّعر، وطرق العناية بالبشرة والشعر في ربيع 2013!اضافة اعلان
حياتنا يا أصدقائي في واد، وحياتهم هم في واد آخر، ورغم ذلك جميعنا نحيا ونتنفس على هذه الأرض. الفرق فقط أننا على قيد العيش، وهم في الحقيقة على قيد الحياة!
كيف نجرب أن نكون أحياء ونحن لم نقترب إلى حافة الموت؟ كيف نستطعم بلسعة السكر، على طرف فنجان قهوة مرة، ونحن المعتادون أن نشربها سكر وسط؟ كيف ندعي أننا نعرف الأحمر والأزرق والأخضر والبرتقالي، لأن جدارن بيوتنا ومكاتبنا مطلية ببهاء، فيما استطاع هؤلاء أن يعرفونه بالرؤية والسمع والشم واللمس، من خلف قبضان رمادية اللون؟ بالله عليكم من جرب أن يشم رائحة السماء؟ ومن كان يعرف قبلا أن للأحمر صوتا رخيما، وللبني لمسة مشوكة؟
هذه هي حياتنا التي لم نحياها لأننا تعودنا أن نعيش فقط، بدون أن ننتبه للفرق. وإن كان ليس مطلوبا منا أن نحيا المعاناة الكاملة، التي لم تتكرر مثلما نسمع بها ونشاهدها في سجون الاحتلال القمعية. لكن ذلك لا يعفينا من التوقف قليلا أمام موائدنا العامرة وأكوابنا الصاخبة بالثلج المكسر، وأرائكنا المريحة نوعا ما، وألوان "كفرات" هواتفنا، لنقارن بيننا وبينهم، في تجربة الصبر التي مثلا لا تتجاوز دقائق معدودة، على إشارات المرور المزدحمة، تتخللها حفلة شتائم وزوامير ومناكفات. لنقارن بيننا وبينهم في تجربة الانتظار التي أزعم أنها لم تتعدّ في أصعب حالاتها، استنادنا على قضبان سور قاعة القادمين في مطار، أو أمام شاشة الحاسوب، استطلاعا لنتائج الثانوية العامة، أو بقرب صناديق الاقتراع استنطاقا لأسماء تمنيناها، أو على حافة باب غرفة العمليات، بانتظار طلة تطيب خاطرنا. كلها تجارب قاسية، ومن الحياة أعرف. لكنها تتقهقر خجلا أمام قصة، مثل قصة جرادات، الذي ادعوا أنه مات بالسكتة القلبية، فيما جثته ما تزال حتى اللحظة، تنطق باللهجة الفلسطينية الفلاحية، بكلمات بسيطة لم تعد الآخ والآه، سببتها كدمات وضربات وتشوهات، ودماء ناشفة على طرف أنف الشهيد.
نعم، نحن في "حياتنا" نحب الحياة والزينة والتجارب الإنسانية المتنوعة، فرحا وحزنا وكبتا وشعرا وحبا. لكن.. عرفات جرادات، أعاد بدون أن يقصد ترتيب أولوياتنا. وها هم رفاقه القابضون على جمر المقاومة، يعلموننا ألف باء الحياة، وليس العيش فحسب!

[email protected]