أصحاب السعادة

في بلادنا، الناس مسكونون بهاجس السعادة والرفاه. ففي الصباح، نتبادل التحية بـ"يسعد صباحك"، وفي المساء بـ"يسعد مساك". وما إن يتقابل اثنان من الموظفين أو المتقاعدين للمرة الأولى، حتى يبادر أحدهما إلى الترحيب بالآخر بالقول "أهلين سعادتك"، وقد يأتي ذلك من باب المسايرة والكياسة والاحترام. وفي المقابل، يستجيب الآخر بمنح لقب مشابه على شاكلة "أهلا عطوفتك" أو"كيفك يا بيك؟"، ليتحول الموقف أحيانا إلى مشهد فيه من المجاملة ما يكفي ليبعث في نفس من يشهد الحوار الكثير من الملل، وربما الانزعاج.اضافة اعلان
في الريف والبادية، تدعو الأمهات للأبناء دائما بالسعادة؛ فما إن تبدأ إحداهن الحديث مع ابنها حتى تقول "يا ولدي الله يسعدك". وفي حياتنا اليومية، نخاطب رجالنا ونساءنا من السفراء والأعيان، وأحيانا المدراء، بـ"أصحاب السعادة". ومن باب احترام المقامات، نستهل كل استدعاء نتقدم به لمكتب من مكاتب الخدمات، بصرف لقب "سعادة" للمدير أو الموظف أو القائم بالأعمال. ويقول لنا الخطباء وواضعو الاستراتيجيات الوطنية أو القطاعية، في كل مرة، أن هدف استراتيجياتهم توفير الرفاه والسعادة للمواطن والمقيم.
منذ أسابيع والحديث يدور عن أن غاية التعداد السكاني الذي انطلق الاثنين الماضي، تتمثل في توفير قاعدة البيانات التفصيلية الضرورية للتخطيط. فالمعلومات التي سيجري استخلاصها عن المساكن والسكان، وخصائصهم العمرية والنوعية والجغرافية والتعليمية والصحية والاستهلاكية والعمالية وغيرها، هي المادة الأولية للخطط التي ستضع الموارد في خدمة السكان، من أجل تحسين نوعية الحياة والنهوض بالخدمات لتحقيق المزيد من الرفاه والسعادة.
الأماني وحدها لا تصنع السعادة، وحديث الساسة عن الرفاه لا يغير في الواقع كثيرا إذا لم يقترن ذلك ببرامج حقيقية تتصدى لمشاكل الجوع والمرض والجهل، وتيسر الوصول لخدمات نوعية في التعليم والصحة والثقافة والرياضة، وإتاحة فرص العمل للجميع، واستثمار طاقاتهم وأوقاتهم في أنشطة تعود عليهم وعلى مجتمعهم بالخير والنفع.
في بلادنا اليوم تتقلص فرص المواطن في الحصول على عمل، ويزداد الضغط على منافذ الخدمات الصحية، ويتدهور مستوى التعليم وتزداد أعباء الأسرة لتغطية كلفته بعد تخلي الدولة عن دعم الكثير من الخدمات التي كانت تعتبر أساسية. ولا تطوير يذكر على خدمات النقل والترفيه والرياضة.
أسعار السلع والخدمات تفوق قدرة المواطن الشرائية، والضرائب تزداد بمعدلات يصعب تصديقها أو فهم مبرراتها. فالمشتقات النفطية تباع بأسعار تفوق الأسعار العالمية، ومعادلة الرفع والخفض بقيت وصفة تستعصي على الفهم.
في بداية كل موسم أو نهاية شهر، تتسلل إلى فاتورة نفقات الأسرة زيادات لا يجد المواطن لها مبررا أو أساسا. فمطلع الشهر الحالي، عدّلت الحكومة أسعار المشتقات النفطية، مخفضة أسعار البنزين والديزل، ومقررة رفع سعر أسطوانة الغاز بنسبة تزيد على 6 %، تاركة الشارع في حيرة حول مسوغات القرار الذي يتنافى مع كل القواعد المنطقية والتصريحات التي أدلت بها الحكومة في المرات التي تعرضت فيها للسؤال.
كما تفاجأت الأسر الأردنية التي انتظرت لسنوات مشاريع السكك الحديدية والباصات السريعة، بزيادة الرسوم المستوفاة على ترخيص المركبات، وبمعدلات تفوق معدلات الزيادة التي يمكن أن تحدث بفعل التضخم أو التغير النوعي على الخدمات. كل ذلك يتم وسط تدهور غير مسبوق في البنى التحتية لشوارع المدن والطرق الخارجية، وأزمات مرور لم يعتد على مثلها المواطن، وضعف في جاهزية وتصدي المؤسسات الخدمية لأبسط التغيرات المناخية.
السعادة التي يتطلع إليها الأردنيون تحتاج وضوحا في القواعد التي تتخذ بموجبها القرارات، وإشراك الممثلين عن الناس في دراستها وإقرارها وشرحها. والسعادة تحتاج لأن يشعر الناس بتحسن في مستواهم المعيشي وقدرة مجتمعهم على خلق الفرص لهم. العدالة ضرورة لا تتحقق السعادة من دونها. والسعادة تتحقق عندما يدرك الناس أنهم غاية التنمية ووسيلتها؛ يشاركون في تخطيطها وصناعتها وإدارتها، فيعرفون مواردهم وأوجه وأولويات إنفاقها.
إسراف الناس في الدعاء لبعضهم بالسعادة، وتحويل نصفهم إلى أصحاب سعادة، وإيجاد برامج تلفزيونية لإسعاد صباحاتهم ومساءاتهم، كل ذلك لا يحقق السعادة، بل يخلق وهما لدى الناس بوجودها. فالسعادة تحتاج مناخا وبنية وثقافة تساعد على تحققها، ولا تعيق الوصول إليها.