أصواتنا التي لم تمت تماماً

يزعم العلماء الآن أن "الأصوات" لا تفنى. وأنَّها تظلُّ مُعَلَّقة في مكان ما في أعالي الفضاء، تحت المظلة الزرقاء المهيبة. ويضيفون أنَّه سيكون بإمكانهم قريباً "استحضارها"، بمعنى عمل Download لهذه الأصوات، وسماعها، وتحليلها، وإجراء الفحوصات التاريخية عليها. وهذا يبعث على تخيّل أكوام أو جبال ضخمة وهائلة من "أشرطة الكاسيت" و"أقراص السي دي" ملتصقة بباطن السماء. الأمر مرعب، علمياً ورومانسياً. حيث سيكون بإمكاننا أن نسمع كلمات سقراط الأخيرة وهو منقوع في السمّ، أو أن نسمع "اسماعيل" وهو يتمتم مفزوعاً لأبيه "يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين"، وربما نسمع ما قال رهطٌ من اللاجئين وهم يهربون تحت قصف الطائرات المغيرة العام 67! قد تسمع صوت أبيك قبل 60 سنة حين كان يثرثر مع سائق التاكسي وهو ذاهب لتسجيل حادثة ولادتك أو وهو يتشاور مع أمك على اسمك! سيصبح الأمر سهلاً، كما يقول العلماء، ويكفي أن تدخل على محرك بحث ربما يشبه "Google"، وتكتب اسم وتاريخ الصوت الذي تريد أن تسمعه! فقد تسمع صوت تلك المرأة التي عرفتها قبل 40 سنة، ثم أضعتها في الزحام، يكفيك الآن أن تتذكر اسمها، لتسمع ما قالته لك، وتظلّ تعيده بفرحة وأنت تتقافز حوله! أو أن تضع اسم "هتلر" مثلاً لتسمع أسماء أولئك الذين شتمهم بكلمات بذيئة قبل انتحاره، أو حوار المتنبي مع خادمه. لن تكون هناك غرف مغلقة بعد الآن، لكنَّ عالَم "الشركات" سيكون بالطبع قادراً على تسليع كل شيء، وسيصير بإمكان مستثمرين أذكياء تغليف أقراص أنيقة بتسجيلات صوتية منتخبة وبيعها، مثل حوارات مجنون ليلى مع زوجها، أو قادة الجيوش مع رؤسائهم، أو مناجاة "موسى" لربِّه، أو ذلك الحوار المقتضب بين "محمود درويش" و"ريتا" قبل سفره الأول الى المنفى! الفكرة مُفزعة، أقصد استعادة التاريخ الممحو تماماً، والاستماع لمقابر هائلة بصوتٍ نقي، وحتى إن لم يكن كذلك فستعمل "الشركات" حتماً على جعله بأعلى درجةٍ ممكنةٍ من النقاء! وستسهر النساء لشهورٍ طويلة وهنَّ يستعدن ساعات الحب الأولى، وستصبح أكثر العبارات رواجاً، على مُحرِّك البحث هذا، عبارة: "أريد أن أسمع ما قال لي أول مرَّة"، أو "أوّل مرة حكالي: بحبِّك"! لكن لا أحد يجزم إن كانت الحدود على الأرض ستقابَل بمثلها في السماء، بحيث تكون لكل دولة مقابر أصواتها، وطبعاً مقابر لغتها، وهل ستؤول مُلكية هذا الفضاء إلى "الحكومات" لتضعه في خدمة سياساتها الأمنية، أم سيكون نَهباً للتجّار، أو سيصير بمثابة "حديقة عامّة" يدخله الناس عبر "الانترنت" وينتقون من "رفوف التسجيلات" ما شاءت أمزجتهم للتذكّر.. أو ما ساقهم إليه الحنين!اضافة اعلان