أغان بين الزيتون

ماذا تتوقع أن تسمع من أغانٍ في أرضٍ مزروعة بالزيتون، ومحاطة بمستوطنات إسرائيلية تعرف من طريقة بنائها كم هي "جشعة"، لها "أفواه مفتوحة" تريد ابتلاع المزيد من الأرض، بغرض أن تتواصل مع بعضها، لتشكل "أفعى" ضخمة تخنق وتبتلع الأرض، وتلفظ أصحابها خارجاً.اضافة اعلان
كانت "الزيتونات" في أرض قرية وادي فوكين؛ قرية الصديق خالد الحروب الذي طالما سمعته يناكف صديقاً آخر من "بتير" -القريبة الجميلة، المتباهية بينابيع المياه، ومساراتها التاريخية، التي تشعر معها في لحظةٍ ما أنّ المياه تسير معلقة بالهواء- بأنّ وادي فوكين هي التي تنتج فعليا الباذنجان المشهور باسم "الباذنجان البتيري"، وأنّ بتير أخذت الصيت، بدل أن يكون "باذنجان فوكيني".
انطلقنا مع مجموعة شبان، جزءٌ أساسي منهم من حركة "المبادرة" الفلسطينية، وجزء من جامعات فلسطينية. وكان هناك نوع من المناكفات الخفيفة المرحة بين الشبان من قوى مختلفة، وطالبة تصرّ على العمل في مكان بعينه، وأخيراً نكتشف أن مجموعتها "الفتحوية" هناك.
كانت أول مرة أسمع عن نشاطات "العونة" الطلابية والشبابية في مواسم الزيتون الفلسطينية، يوم حدثني زميل حمساوي آت للدراسة، نهاية الثمانينيات، في الجامعة الأردنية، بعد أن أغلق الاحتلال بيرزيت والجامعات الفلسطينية الأخرى على وقع انتفاضة الحجارة. أخبرني بحنين عن هذا النشاط، وقال إنه يحدث أحياناً أن ينام الطلبة في ضيافة المزارعين ليكملوا العمل. وقال إن البعض لا ينتج كفاية، وضحك أنّ طالبة ربما تستحم في ضيافة مضيفها "تصرف شامبو" أكثر مما اشتغلت.
في أرض الزيتون، تحت المستوطنات، وضع الطلبة جهاز تسجيل مرتفع الصوت. وكانت لدهشتي أغنية لنانسي عجرم (ربما أغنية ملكة البطيخ الشهيرة). ثم انتقلت الأغنية إلى الدّحية البدوية. ولما اكتشف الزملاء الذين كنت أتقاسم معهم شجرة زيتون نلتقط حباتها، أخبروني كيف حوّل أحدهم الأغنية البدوية لأغنية رائجة جداً، أشبه بالهوس، ثم جاءت أغنيات ملحم بركات (قبل أيام من رحيله).
ومع تقدم الوقت والانهماك بالزيتون، ومع كؤوس الشاي التي وزعها مضيفونا المزارعون، صارت الأغنيات فيروزية. ومع فيروز صار الحديث عن السياسة، وكواليس المخيمات وقصصها، وقصص تحدي الاحتلال. ويخبرك المزارعون أنّ سكان المستوطنة المحاذية، يدّعون أنهم مثقفون وجامعيون وفنانون، لذا رفضوا أن يبنوا سورا للمستوطنة، يحجب الرؤية. ويغضب شاب من أصحاب الأرض، ويضيف: "طبعا يجب أن يرونا نحن القرود نشتغل في أرضنا". ويكمل: "كأننا حيوانات في حديقة حيوان". وقلت: "ربما الخطوة المقبلة ضم هذه الأرض.. فلماذا السور؟".
كانت حبات الزيتون تتجمع على البساط المفروش على الأرض. ويوضح أحد نشطاء المقاومة المدنية: "نعم.. العام الماضي تظاهرنا احتجاجاً مكان هذه البيوت (الاستيطانية) التي يجري إنشاؤها.. والعام المقبل سيكونون قد سكنوها".
على طبق مجدرة كبير للغداء، يسأل مناضل، أكبر سناً من الشبان: "تخيلوا لو أني خلعت ملابسي كُليّاً، ماذا سيفعل الفلسطينيون بي، فلماذا يفعلُ الإسرائيليون؟". وكان يشير لينبوع مياه قريبة، يأتيها مستوطنون للسباحة عراة. فيخبرنا شاب بقصة مجيء جنود بسلاحهم، وتلاسنهم معه ومع أصدقائه، الذين كانوا يسبحون في بركة ينبوع آخر، يريدون طردهم. ويكمل الشاب: "في الأخير اختصرنا" وتركنا المكان، فخلع الجنود ملابسهم، ووضعوا السلاح جانباً، ونزلوا للمياه. ويقول وقفنا نراقب من بعيد، واكتشفنا "ناشطة سلام" إسرائيلية تراقب، وتصور المشهد، ثم ذهبت وتجادلت مع الجنود. وبعد ابتعادها أوقفناها، وسألناها ماذا حصل. فأخبرتهم أنها هددت الجنود أن ما فعلوه ضد الشبان "عنصرية"، وأنّها هددتهم بنشر صورهم وقد تركوا السلاح جانباً. ويكمل الشاب: تواصلنا معها عدة مرات. ثم يسألنا: "هل تعرفون أين هي الآن؟".. ويجيب: "مجندة في الجيش الإسرائيلي!".
في طريق العودة من كروم الزيتون مشياً، كان الحديث عن مبالغ مالية مطلوبة لكفالة أولاد معتقلين من مخيم "عايدة". ومن سيدفعها، من معه ليدفعها. طفل سيسجن ثلاثة أشهر إذا لم يدفع 1000 شيكل عن كل شهر (200 دينار)، وأم ابنها في السجن، وتقول لا يمكن لها أن تدبر 5000 شيكل كفالة. ودار جدل هل يجب أن يُدفع شيء للاحتلال، حتى لو كفالة، ووصل الجدل للكوابيس والآثار النفسية لاعتقال الأطفال. وكان هناك سؤال صامت: هل سيقطف أيّ أحدٍ زيتونا هنا العام المقبل؟!