أقنعة وعنف: نحن نعود إلى العصور الوسطى

أدريان وولدريدج* - (مجلة 1843) 14/9/2020
ترجمة: علاء الدين أبو زينة

تحدث أهل العصور الوسطى عن الفروسية ومجد الرب، لكنهم عاشوا في عالم وحشي سرقت فيه العصابات بعضها بعضا وانخرط فيه الرهبان بحماس في ارتكاب جميع خطايا الجسد. وتتحدث نُخب اليوم بلا توقف عن مواقف "الدمج" و"الربح للجميع"، ولكنها خلقت عالماً تذهب فيه الغنائم إلى أقلية صغيرة، وحيث يتم الإلقاء بالمزيد والمزيد من الناس في البرية.

  • * *
    يرى دون كيشوت أشباح العصور الوسطى أينما حل وارتحل. النزُل على جانب الطريق قلاع، والمتشردون فرسان في درع لامعة، وطواحين الهواء عمالقة تجب مبارزتهم. كثيراً ما ينتابني الشعور نفسه هذه الأيام. المساعدون في المتاجر يضعون على وجوههم أقنعة في شكل خوذات شفافة، ويحتمون خلف ملاءات "برسبيكس" التي تبدو أشبه بدروع.
    ربما تكون الأمور هكذا كما ينبغي أن تكون: كانت العصور الوسطى وقتاً لتفشي الأوبئة. ضربت الفيروسات الإمبراطورية الرومانية بقدر ما أصابت البرابرة. وقتل "الموت الأسود" في أربعينيات القرن الرابع عشر أكثر من 40 في المائة من سكان أوروبا (وهي نسبة تضع مشكلتنا الصغيرة في منظورها الصحيح). فر الأثرياء من المدن للاحتماء من المرض في الريف ("ديكاميرون" لجيوفاني بوكاتشيو هي مجموعة من الحكايات التي رواها أشخاص يختبئون من الطاعون خارج فلورنسا). وظهر ضرب فني جديد، "رقصة الموت"، والذي روى قصة عن عالمية الموت. وجلَد أتباع الطوائف الدينية الماسوشيون أنفسهم بالسياط على أمل يدرأ الألم قدوم يوم الدينونة الأخير.
    والآن، نشهد عودة العديد من أمراض القرون الوسطى. الإيمان بالعصر الألفي السعيد عاد إلى المسير مرة أخرى. ونشطاء حركة "تمرد ضد الانقراض" يُغلقون المدن ويلطخون ساحات البلدات بالدم الزائف في احتجاجات عادة ما تنطوي على الرقص الجامح وقرع الطبول، مع تنبؤات بقرب نهاية العالم. حتى أن العصور الوسطى الجديدة ذات التقنية العالية تشهد عودة التسميات السياسية التي سادت في العصور الوسطى. كان الملوك يُطلق عليهم ذات مرة أشياء مثل "الأصلع" (تشارلز) أو "القاسي" (بطرس القشتالي). والآن، يطلق دونالد ترامب على خصومه أسماء أيضاً: "جو النائم" أو "هيلاري المحتالة".
    وهناك أيضًا أوجه تشابه بنيوية -تشابهات بدأت قبل فترة طويلة من انتشار فيروس كورونا والتي تثير أسئلة مقلقة حول مستقبل ما-بعد-كوفيد. الطبقة الوسطى التي كانت حصن عالم ما بعد الحرب تتراجع عبر الغرب كله. والأوليغارشية التكنولوجية الجديدة تشبه الطبقة الأرستقراطية في العصور الوسطى، "الطبقة الفارسة بلا فروسية"، كما كتب جويل كوتكين في كتاب حديث بعنوان "قدوم الإقطاعية الجديدة".
    أعضاؤها يعيشون في مجتمعات مسورة وراء بوابات أو في جيوب منعزلة محمية من بقية المجتمع. وهم يتفاعلون مع بعضهم بعضا في المهرجانات العالمية، ولكن نادرًا ما يقيمون أي اتصال مع أولئك الذين يعيشون في مناطق غير عصرية مثل تلك الأجزاء من البلاد التي يراها معظم الأميركيين فقط من الجو، أو شمال إنجلترا. وترتدي جيوش كبيرة من "الخدم والأتباع" بزات معلّمة بشاراتهم، في شكل قمصان قصيرة الأكمام أو قبعات بيسبول مزينة بالشعارات، والذين يخدمونهم ويلبون طلباتهم.
    والنخبة الأكاديمية تبدو أشبه برجال الدين في العصور الوسطى يومًا بعد آخر. الجامعات والمدن الجامعية أديرة معاصرة، تحمي أعضاءها اللائذين بأسوارها من التلوث من العوام. وينخرط الأكاديميون في المعادل الحديث للمناقشات المدرسية: بدلاً من مناقشة عدد الملائكة الذين يمكنهم الرقص على رأس دبوس، فإنهم يناقشون ما إذا كان الجنس من صنعة المجتمع (الإجابة: بالطبع هو كذلك).
    وبدلاً من احتواء تنويع من الأفكار، يبدو رجال الدين المعاصرين هؤلاء مهووسين بارتكاب الخطايا في شكل العنصرية والتمييز الجندري، وتوزيع العقوبات المخيفة على المذنبين. وأولئك الذين يغامرون بالخروج من نطاق ضيق من الآراء المسموح بها يُطردون من المجتمع، ويُجلدون علنًا على "تويتر"، ويُجبرون على العيش في المعادل الفكري لغابات العصور الوسطى.
    هذه المجتمعات ذات البوابات والأديرة على غرار القرون الوسطى محاطة بفئة متزايدة من الأقنان والمتسولين. والأقنان حاضرون دائماً تحت تصرف النخب التقنية ورجال الدين -يقودون سياراتهم ويقدمون لهم طعامهم وينظفون منازلهم. ولكن، بدلاً من أن يكونوا مرتبطين بأشخاص معينين أو بقطع من الأرض، فإنهم يعملون عندما يلزمون، بعقود من دون ساعات عمل محددة ويكونون غب الطلب ومقيدين بخوارزمية. ويختار هؤلاء الأقنان طريقهم بين حشود المتسولين الذين يعيشون في مدن الخيام ويعتمدون في عيشهم على منبوذي المجتمع الأوسع.
    رجال الشرطة يبدون بشكل متزايد مثل فرسان دون كيشوت. هذا هو واقع الحال بشكل خاص في أميركا، البلد الذي يقود حملة العودة مرة أخرى إلى العصور الوسطى على الرغم من أنه لم يختبر العصور الوسطى بنفسه على الإطلاق. ويرتدي الناس هناك خوذات على الرؤوس لحماية أنفسهم من الحجارة، وسترات خاصة لدرء الرصاص، ويضعون لبادات على أكواعهم وركبهم. وهم مثقلون بكل أنواع المعدات الثقيلة -أجهزة اللاسلكي، والمصابيح، والمسدسات والبنادق بطبيعة الحال. وفي بعض الأحيان يركبون الخيول، مثل فرسان الزمن الخالي، لكنهم أكثر احتمالاً لأن يختاروا عربات "همفي" المصفحة، أو حتى الدبابات.
    وعلى الرغم من كل هذا التدريع الثقيل، تفقد الشرطة السيطرة على الشوارع. كان أحد الإنجازات المميزة للحداثة هو خلق الدولة القومية التي يمكنها ادعاء احتكار العنف داخل حدودها. وتخسر الدولة مرة أخرى المعركة ضد العصابات الإقطاعية من مختلف الأنواع. في لندن، أصبحت جرائم السكاكين شائعة لدرجة أنه لن يمر طويل وقت قبل أن يتقلد الناس السيوف والأغماد. وفي العديد من المدن الأميركية الكبرى، غادرت الشرطة المناطق داخل المدن وتركتها لتتدبر أمر نفسها بنفسها. وتحكم وسط مدينة بورتلاند عصابات من النشطاء الذين يرتدون دروعهم الخاصة من العصر الوسيط ويشتبكون في مواجهات منتظمة -بطقوسية عالية- مع قوات الشرطة.
    ومع ذلك، فإن أكثر أوجه التشابه إدهاشاً هو المسافة بين الصورة والواقع. فقد تحدث أهل العصور الوسطى عن الفروسية ومجد الرب، لكنهم عاشوا في عالم وحشي سرقت فيه العصابات بعضها بعضا وانخرط فيه الرهبان بحماس في ارتكاب جميع خطايا الجسد. وتتحدث نُخب اليوم بلا توقف عن مواقف "الدمج" و"الربح للجميع"، ولكنها خلقت عالماً تذهب فيه الغنائم إلى أقلية صغيرة، وحيث يتم الإلقاء بالمزيد والمزيد من الناس في البرية. والجحيم يومئ.
اضافة اعلان

*Adrian Wooldridge كاتب عمود في مجلة "الإيكونوميست". كان سابقًا كاتب عمود في "شومبيتر". كان رئيسًا لمكتب "الإيكونوميست" في واشنطن حتى 2009.
*نشر هذا المقال تحت عنوان: Visors and violence: we are returning to the Middle Ages في مجلة 1843، الشقيقة لمجلة "الإيكونوميست".
هامش:
(1) "تمرد ضد الانقراض" Extinction Rebellion هي حركة بيئية عالمية هدفها المُعلن هو اللجوء إلى العصيان المدني السلمي لإرغام الحكومات على اتخاذ إجراءات لتجنب نقاط التحول في النظام المناخي، وفقدان التنوع الحيوي، وخطر الانهيار البيئي والاجتماعي. تأسست في المملكة المتحدة في أيار (مايو) 2018. في نيسان (أبريل) 2019 احتلت الحركة خمسة مواقع بارزة في لندن: ميدان بيكاديلي، ساحة أكسفورد، قوس الرخام، وجسر واترلو إضافة إلى المنطقة المحيطة بساحة البرلمان.