أكثر مما يتطلّب الإيمان!

نجوتُ من كورونا حتى كتابة هذه السطور، لكنّ هذه النجاة لم تضمن لي مصافحة صديقي الذي كفّ عن زيارتي، واكتفى بإرسال تحيّته بأصابع حنطيّة في رسالة هاتفية باردة، كما لم تتح لي أن أحكّ عينيّ لتأخير الدمع أو لاستعجاله أو بلا سبب. نجوت لكنّي لا أذكر آخر مرة فركتُ فيها أرنبة أنفي، وهذا يعني أني لا أذكر أيضاً آخر مرة حاولت فيها حياكة خدعة. نجوتُ لكني لا أستطيع تمرير أصابعي على شفتيّ لأداري كذباً.. حين كان هناك من أكذب عليه!اضافة اعلان
في جيبي دليل شافٍ ووافٍ للطرق الآمنة لاستلام الطعام من عامل توصيل الطلبات. ينصحني الدليل الملوّن بإبلاغ العامل من وراء الباب ترك الطلب عند العتبة، وأن ألتقط كيس الطعام بقفازات النايلون، وأفرغه في حوض المغسلة، وأتخلص منه في سلة المهملات، ثم أعيد تعقيم الحوض. وفي رسوم كرتونية أخرى طالبني بنقل الطعام إلى وعاء آخر من دون لمس الأغذية في الأواني التي تمّ توصيلها، وغسل الكفّين لعشرين ثانية قبل الأكل.. وفي الدليل تحذير أخير: لا تطبق شفتيكَ تماماً أثناء البسملة، فقد تكون الشفة العليا حاملة للفيروس!
نجوتُ وقبل أن أخرج إلى الشوارع درستُ نظرياً الآداب الجديدة للسلام عن بُعد، وتعلّمت مع الهواء المحدود في البيت العناق الآمن إن اقتضى الشوق، واستعدتُ الثقافة الهندسية لحساب الأمتار التي تكفي لتجنّب رذاذ العطاس. حمّلتُ التطبيقات الذكية التي تخبرني بالمشتبه بهم، والمتعافين، والأكثر والأقل عرضة للإصابة، مع طلب مستعجل بخريطة للطرق التي تخلو من كورونا، وتفضيل تلك التي تمّ تعقيمها بالمواد الصديقة للبيئة. نجوتُ لكني رأيت أن النجاة أمر شاق، لذا اكتفيت بتعليمات "إدارة الأزمات والكوارث" بكيفية الوقوف الصحيّ على الشرفة.
قبل كورونا كنتُ حنطياً، كما أظنّ، لكني مع الاستحمام المفرط بالصابون السائل والجاف، قبل مسلسل الظهيرة وبعده، ومع الجلوس الطويل في البيت مع نور الشريف وأحمد زكي ونساء مصريات من مواليد ثورة يوليو والعدوان الثلاثيّ، صار لوني أبيض، اسكندنافيا على نحو ما. وهذا يعني أني نظفتُ أكثر مما يتطلب الإيمان، حتى صرتُ أفتش في محرّك البحث عن الأعراض الجانبية للنظافة، وأخشى أني فقدتُ أجزاء من تركيبتي الأولى، لا أبالغ أبداً، فقد غسلتُ يديّ بالصابون والمعقمات ما أفقدني خطوطاً أصيلة في كفّي، فلم يعد إبهامي يطابق بصمتي على الهاتف!
.. نجوت من كورونا حتى كتابة هذه السطور، وهذا أمر مؤسف وضار وغير صحّي بالمرّة!