أكثر من واقعة.. أقل من سابقة

تفتح واقعة القضاء على الخلية الإرهابية في إربد، وهي في مهدها، الأبصار والأذهان على حقيقة لا مراء فيها، وهي أن الشرق الأوسط ليس في وسعه النوم على الحرير حتى وإن هدأت العاصفة هنا أو هناك لفترة؛ وأن شعوبه غير قادرة بعد على أخذ غفوة عميقة في ظل هذه التهديدات المتفاقمة. ليس أدل على ذلك من هذه الحروب والصراعات والانقسامات والإخفاقات، التي بلغت ذروة سنامها في خضم ما بات يعرف باسم "الربيع العربي"، ناهيك عن الفشل في استكمال متطلبات التطور الاقتصادي والاجتماعي والديمقراطي.اضافة اعلان
بحكم عدد من العوامل التي لا يتسع لها المقام، كانت بعض البقاع القليلة الآمنة في هذه المنطقة الملتهبة، أشبه بالاستثناء على القاعدة، أو قل نقطة الضوء الصغيرة وسط ليل دامس، وذلك بفضل تسامح أنظمتها السياسية، وانتفاء عناصر التوتر الطائفي والمذهبي داخل بنيتها الاجتماعية، ناهيك عن يقظتها الأمنية، وحسن إدارتها لأزماتها الذاتية، حيث بدت كل واحدة من نقاط الضوء هذه كمن ينام بعين ويفتح الأخرى، لاتقاء عقابيل المتغيرات غير المحسوبة بدقة، تماماً على نحو ما كانت عليه حال الأردن، لاسيما في السنوات الخمس الماضية.
ومع أن شواظ النيران المتقدة في الإقليم طالت على نحو جزئي، في بعض الأحيان، أطراف هذا البلد القابض بيديه على جمر حرائق جواره، إلا أن واقعة إربد الخاطفة كانت، على محدوديتها، الكتلة النارية الأكبر والأخطر التي وصلت إلى فناء البيت، وكادت -لولا تقاليد التماسك الذاتي ومضاء اليقظة الأمنية المسبقة- أن تسجل سابقة خرق في جدار المنعة الوطنية، ولو لوقت مستقطع ضئيل.
في ظل المعلومات القليلة المتاحة عن هذه الواقعة التي أخمدت في موضعها بكفاءة واقتدار، فإنه يمكن اعتبار الحدث مجرد خبطة إرهابية عشوائية طائشة، جوبهت قبل استفحالها بعمل استباقي عاجل، يبلّغ كل من يعنيه الأمر أن الجهوزية كاملة على مدار الساعة، وذلك عبر عرض عملي ملموس لما سيكون عليه الأداء في كل مرة قد تصحو فيها خلايا نائمة، ندرك جميعاً أنها ما تزال مبثوثة في هامش الهامش، حيث العماء الكلي والغلواء والكراهية.
ولا أحسب أن أحداً قد فاجأته هذه الواقعة الغادرة، في ظل تفاقم حالة الاضطراب الإقليمي الشامل، وفي مناخات الفوضى الناشبة من كل حدب وصوب في المحيط المجاور. ولا أعتقد أن هناك من ارتعدت فرائصه جراء هذه الصدمة الصغيرة، التي تأخر وقوعها كثيراً، ونامت طويلاً خلف الحدود وعلى التخوم، وسبتت عميقا في دواخل جماعات تنتسب إلى مجتمع غير هذا المجتمع.
وعلى قاعدة "رب ضارّة نافعة"، فقد أتت النتائج الفورية لهذه العملية الإرهابية المدانة، المتبوعة بعملية إجهاضية محكمة، على عكس ما كانت تتوسل تحقيقه هذه الجماعات الحاقدة؛ إذ تجلت مظاهر الوحدة الشعبية بقوة، وانشدت روابط العصبية الوطنية في لحظة اختبار متكررة، فانقضى الأمر من فوره بأرباح فاقت الخسارة المؤلمة، وتعززت الصورة الانطباعية الرائجة في الداخل والخارج عن متانة هذا النسيج الاجتماعي، وعن القدرات الفائقة لهذا البلد الصغير في معركته المشتركة ضد الإرهاب في الإقليم كله.
ولعل العبرة التي لن تغيب عن البال أبداً، أن من المبكر جدا أن تقرّ عين الحارس، حتى لا نقول إن من غير المسموح لأحد هنا، وفي المشرق العربي كله، أن ينام على حرير هدأة المظاهر الخارجية الخادعة، فما بالك إذا كان من العيب على الرجال أن يناموا على الحرير أصلا، ومن المحرم عليهم ارتداءه قطعا، خصوصاً عندما تشتد الصعوبات، وترتفع درجة التحديات، التي لا مفر من جبهها بكل السبل المتاحة، بما في ذلك قبضة اليد، وبراعة استخدام العقل، وكل ما من شأنه أن يفضي إلى التحصين الذاتي أكثر، ورفع مستوى الكفاءة أعلى، وخوض الغمار بلا تهيّب إذا وقعت الواقعة.