ألفُ صدفة.. ولا ميعاد!

كلما صاحبتني امرأةٌ في مشي سريع، أتوقفُ بمنتصف الطريق لأقول بوضوح تام: لنتمهل حتى لا يطولَ خط الرجعة!
وأمشي وحيدا حتى صارت لديَّ عادة غريبة: أجلسُ على مقعد الحديقة أبتسمُ لخمسين امرأة يعتذرْنَ لتأخرهِنَّ أجزاءً من الساعة؛ يقلنَ إنَّ الأمر متصلٌ بمزاج التوقيت الصيفي، فقد مرَّ الشتاء بليال طويلة كالحديث عن قصص الحبِّ القصيرة. أخرجُ ولا ألتقي بالمرأة الواحدة والخمسين، حتى حينَ أدخلُ حيِّزَ التوقيت الخريفي!

اضافة اعلان

وفي سبيلها، ذهبتُ بقصد إلى المصادفات المتوقعة في المصاعد الكهربائية، فوصلتُ وحدي. جلستُ عمدا بالمكان الخطأ بمطاعم خافتة الإضاءة، فوصلني الطبقُ الوحيدُ مالحا. جرّبتُ لعبةَ الأرقام على الهاتف فجاءني الردُّ: كل الخطوط مشغولة. افتعلتُ المصادفة ألف مرَّةٍ بكلِّ درجات الخسارة، في كلِّ حافلات النقل العام، ولم أجد خيرا من موعد لم يأتِ بعد!

والآنَ لا شيءَ يدعو للكدر؛ أشقائي يضحكونَ في الصور، والغرفةُ واسعةٌ بغيابهم، وأمي تواصلُ تسديدَ النصائح إليَّ؛ لكنني ما أزالُ أدخلُ الحبَّ بقدمي "الشمال"، وأخسرها بلا أسف مع الخسارات الصغرى. ولا أمشي خطوة إلى الأمام؛ فقدمي "اليمين" متلكئةٌ على عتبة بيت الزوجة!
ليس لديَّ موقف ذكوري متعال على الزواج..، كل ما يُفزعني فيه الأشياءُ العادية كأن أصبحَ زوجا لحوحا بطلب العطف؛ فلو خرجتُ من المطعم ونسيتُ الهاتفَ المحمول سأعودُ بالطبع مهرولا. ولو أتذكرُ، بفزع التلميذ "الشاطر" الذي نسي واجبه للمرة الأولى، أني لم أبادر لسحب الكرسيِّ لزوجتي في المطعم، ولم أمسك بيدها على الدرج الوعر؛ فـ.. فلن يُجدي الاستدراكُ!

لذلك وبصراحة غريبة إنْ قلتُ لامرأة يوما بوضوح شديد: أحبُّكِ.. ومسكتْ يدي كما تفعلُ النساء اللواتي يحرصنَ على الحبِّ بحبْسِهِ الذهبيِّ؛ فلتتأكد أنني لم أعُدْ لها!

هكذا أقرُّ أنني أريدُ البقاءَ عاديا، ليس كالعشاق حين يكونون استثنائيين في عنادهم، فيقولون إنه لو تكرَّرَ العمرُ مرَّتيْن لتورَّطوا مُجدَّدا بحبِّ نسائهم.. فحبِّي أيضا عادي؛ ولو يأتيني عمر جديد سأنفقه بمواصلة البحث عنكِ!

..فيا صاحبةَ الموعد الأخير على العشاء الأول: لماذا لم نلتقِ قبل اليوم؟! سألتُ عنكِ كثيرا، وتواجدتُ في كلِّ الأماكن التي قيلَ إنكِ تسهرين بها. وذهبتُ إلى عملكِ المفترض، وكانت دائما تصدُّني هزَّة رأس نافية! ما تصوَّرْتُ لقاءكِ قبل اليوم، لو لم أجلسُ فوقَ حقيبتي مثل مسافر بلا محطة، وجئتني حائِرَةً تسألينني عن وجهتي المقبلة!

ومشيتِ خفيفة؛ من دون الخلخال أو الأساور والأقراط، ألقيتِ تحيَّتكِ المعتادة علي، ولم أكن المقصودَ تماما...، فتململَ عبدالوهاب بنومه العميق، وألحَّ عليه السؤالُ القديم: "مَنْ يا ترى التي لحَّنتُ من وحْيِها (فاتت جنبنا)"!

وما انتظرتِ الجواب، مشيتِ؛ فاستعجلتُ النومَ علني أصادفكِ في حلمي..؛ وما أزالُ نائما بجانب امراة تختبرُ أقدارها. وكلُّ ما أخشاهُ أنْ تجفَّ لغتي قبل أنْ يجري صوتي في روحكِ، وأقرأ عليكِ قصائد غزل عذريِّ كواجب ثقيل في الحصَّة السابعة من يوم زوجي شاق!
هل تذكرين على وجه التحديد أين التقينا آخر مرة؟ أنا أذكر..؛ لما أغلقتُ البابَ ونسيتُ المفتاح معكِ!

وبانتظارك صرتُ من المجانين العذريين، أجلسُ في المطعم أحدِّق بكوب الشاي؛ وكم مرَّة شربته مُرَّا لأنني ذوَّبتُ السكر بكفي..، وكفكِ على الطاولة البعيدة! أتخيَّلُ مروركِ وأقسم أننا التقينا؛ لكنَّ النادلَ الغفل سلمَ الرسالة إلى التي أصبحت زوجتي! تجلسين على طاولة ما الآن، فلا تقلقي إن سقطَت كلماتي قبل أنْ تصلكِ..؛ فمعتادٌ أنا على الطرق التي تنتهي في منتصفها!

وأمشي.. رأيتكِ كثيرا، ودائما يخذلني صوتي لما أناديكِ؛ فلكِ أسماءٌ كثيرة أجهلها ولا أعرف بماذا تلزمكِ. يكفي أنكِ حبيبتي وبذلك سأناديكِ الآن..؛ كل النساء في الشارع استدرنَ بلهفة، ووحدكِ واصلتِ المشيَ بأسمائكِ خارج المعجم. لكنك لما تأتي سأتلو عليكِ، غيبا، أسماءكِ بكلِّ لهجات المدن التي عبرتها بأثركِ..

يحزنني غيابك، وليس لحزني قالبٌ في أيِّ موَّال؛ فلو تمدينَ كفكِ تحت رأسي سيكونُ بإمكاني الموت بتابوت أبيض فضفاض، ولو تمسدين جبهتي بكفكِ الأخرى سأدركُ، متأخِّراً، حكمة الحياة من بعد الفناء!
لا شيءَ يفرحني. ورسالتكِ الهاتفية التي تعدني بموعد ليلي بعد الجسر أصابتني باليأس؛ لأنني سأعبرُ الجسرَ، وكم مرَّة أخبرتكِ أنني أخاف النظر إلى الفراغ المنطقيِّ أسفله. سأعتذرُ عن اللقاء؛ فأكثرُ ما يوجعُ قلبي الفراغ المفتعل بعد الجسر!

..وكم دخلتُ المكانَ الذي غادرتِه للتو، وكم خرجتُ من الزمان الذي ستأتي إليه غدا!

[email protected]