أموال "الضمان" والثقة العامة

في الوقت الذي كان الأردن ينتزع قرار التحكيم لصالحه في قضية ادعاء شركة قطرية استملاكها حصة صندوق استثمار أموال الضمان الاجتماعي في بنك الإسكان، وهي القضية الشهيرة التي شغلت الرأي العام الأردني منذ أكثر من عامين، استمرت التسريبات الإعلامية حول صفقات غامضة وأطماع بأموال "الضمان الاجتماعي" تدور حولها أسئلة مشروعة. فما يزال المجتمع الأردني يزداد قلقا كل يوم على مستقبل أمواله التي أودعها في ذمة مؤسسة الضمان الاجتماعي، وسط زخم لا يتوقف من التسريبات والقصص حول صفقات وشبهات تحتاج من إدارة "الضمان" إلى ثورة حقيقية في إدارة الشفافية.اضافة اعلان
قرار التحكيم الصادر في سويسرا الخميس الماضي، في واحدة من أعقد وأغرب قضايا النصب المالي، يعد من دون شك خطوة مهمة في سعي الدولة إلى استعادة الثقة العامة التي تراجعت بشكل واضح خلال السنوات الخمس الأخيرة. وجاء الحراك الشعبي في العام 2011 ليكشف بجرأة عن الكثير من مكامن العطب والضعف التي قادت إلى هزة عميقة نالت الثقة العامة، وفي مرات عصفت بها.
الوجه القبيح للأداء العام لأي دولة أو كيان، هو الفساد المالي، وهو الأكثر استفزازا لمشاعر الرأي العام الأردني، والمصدر الأول لاهتزاز الثقة العامة. وقد استطاعت بعض مؤسسات الدولة مؤخرا، وبخطوات تدريجية، استعادة بعض ملامح الثقة العامة، ولاحظنا هذا التطور في بعض الإجراءات القانونية والأمنية التي هدفت إلى فرض قوة القانون في ملفات عديدة؛ مثل استعادة السيطرة على بعض المناطق الرخوة أمنيا، ووقف بعض الممارسات غير القانونية، واستعادة هيبة امتحان "التوجيهي"، وتحقيق إنجازات مهمة في ملف آبار المياه، كما ملفات أخرى تحققت فيها إنجازات، بعضها محدود، لكنها بالمجمل حسّنت، إلى حد ما، منسوب الثقة العامة، وأعادت شد حبال العلاقة بين الدولة والمجتمع التي استرخت وتهالكت كثيرا.
أولى مراحل ومؤشرات انهيار الثقة العامة في أي مجتمع، تبدو في اختفاء الصدقية في الحياة العامة؛ حينما لا تصدق الحكوماتُ المواطنين، وتسود ثقافة التستر والسرية، وتبرز الاختلالات في نظم تدفق المعلومات إلى المجتمع. أما المرحلة الثانية، فعنوانها افتقاد الثقة بالقانون وقدرة الدولة على تنظيم العلاقات بين الأفراد والجماعات، ما يقود إلى بداية ظهور مؤشرات انفراط العقد الاجتماعي، وظهور جماعات تنازع الدولة احتكار القوة. وإلى هذا الحد تبقى قوة الدولة هي المسيطرة، لكنها ليست الحاسمة، فيما تتقدم حالة عدم الاستقرار. وفي المرحلة الثالثة، يتعمق فقدان الثقة بالقانون، ويمتد إلى فقدان الثقة بالمؤسسات والنظم العامة، مثل التعليم ومؤسسات التنشئة الاجتماعية، وتتعمق قوة الجماعات المرجعية الأولية، مثل الطوائف والجماعات الدينية والقبائل، والتي تبرز كقوة شبه منظمة تنازع الدولة في وظائفها الأساسية، وأهمها احتكار القوة. وفي المرحلة الأخيرة، تجتمع كل عوامل فقدان الثقة السابقة، وتحوّل الدولة من دولة الأمة إلى دولة العصابة، أي الانحلال والزوال.
لذلك، كانت قضية ادعاءات الشركة القطرية مسألة على درجة كبيرة من الخطورة والحساسية بشأن مستقبل الرهان على قدرة الدولة على إعادة بناء الثقة العامة. ولو حسمت هذه القضية بشكل آخر، لعصفت بقوة بكل الإنجازات الأخيرة.
لن نأتي بجديد إذا ما قلنا إن إدارة أموال "الضمان" تعد اليوم اختبارا حقيقيا لكفاءة الدولة، وبالتالي ثقة المواطنين بالإدارة العامة. ولا يمكن بأي حال الركون لما تحقق في زيورخ؛ فثمة أسئلة لا تتوقف من قبل الناس وقلق حقيقي حول أموال مؤسسة "الضمان". وثمة حاجة حقيقية وملحة لأن تطور إدارة المؤسسة قدراتها في الشفافية وتدفق المعلومات إلى المجتمع، فالشفافية هي الحل.