أمّي لا تنتظر الرسائل

أمّي الأصغر من النكبة والأكبر من النكسة، ليست أميّة، صحيحٌ أنّها لا تكتب، لكنّ ذلك ليس عن جهل، بل لأنّها منذ ثلاثين عاماً لم تذهب للانتخابات، وكان هذا الموسم الوحيد الذي تضطرّ فيه للكتابة في الدائرة الثالثة، حين انتخبت المرشّح الشيوعيّ العتيق "يعقوب زيّادين"، وهي المحجّبة، المعتمرة، الشديدة التديّن.. المطيعة للزوج المقيم في جهة اليسار.اضافة اعلان
كانت أمّي تقرأ عناوين صحيفة الغد، تخرجها من الصندوق الأحمر، وتفردها على طاولة في المطبخ، تكون قريبة من ضوء الشمس، تستعين أيضاً بنظارة أبي السميكة الإطار، لكنّها تكتفي من كلّ السّواد بنبأ غير موثوق لـ "وقف إطلاق النار"، وتستنكف عن قراءة التفاصيل حيث يقيم الشيطان، وتبرّر ذلك بريفيّة رام الله وقافها التي تقلب كافاً، بأنّها "لا تقشعْ".
تخلّفت أمّي عن اللحاق بعربة القطار الأخير المتجه نحو شبه الجزر الرقميّة، فظلت حتى العام العاشر من هذه الألفية مخلصة للهاتف الأرضيّ الأسود، المثبّت على رفٍّ من القشِّ في مطبخها، ولما صار لا بدّ أن تقتني هاتفاً محمولاً في ذروة الذكاء المُصنّع، اشترطت علينا أن نشتري لها هاتفاً متقشّفاً للإرسال والاستقبال فقط.. على أن يصل إرساله إلى رام الله.
ليس لأمّي حساب على تويتر، وهذا يعني أنّها لم تكن معنيّة أبداً بإبداء رأيها في مائتين وثمانين حرفاً بالكاد تكفي للدعاء على إسرائيل بقيام قيامتها. فات أمّي الكثير منذ إنشاء شبكة التدوين الصغيرة في العام السادس من الألفية الجديدة، فقد نشبت حرب بين مغنية خليجية وأخرى شاميّة، انتهت كما يحدث دائماً بوساطة مصريّة.. وبعد عشرة أعوام رأت أمّي أنّ في الصلح خيرا.
ولا مكان أيضاً لأمي على أرض فيسبوك الزرقاء.. إذن هي معفيّة من صداقات المتقاعدين والمحاربين القدامى الذين ماتوا، ميتة ربّهم، كل الشهود على بطولاتهم، وإذن هي ليست مضطرة لإسالة دمعة، أو إلصاق ضحكة على خدّيها، فأمّي لا يضحكها في هذا السنّ سوى الأسنان اللبنية لأحفادها، وأحياناً الإعادة المائة للكوميديا الشعبية لـ "حسن النعماني"، الشهير بـ "أرابيسك"، والمعروف في مصر وما حولها بـ "صلاح السعدني".
لن تستقبل أمّي طلباً مستعجلاً للصداقة من "الرجل الذي فقد عقله"، و"أمير الأحزان" و"عبد الحليم حافظ" في صحوته الافتراضية، ففي أوقاتها البيضاء بين صلاة وصلاة، تجلس أمّي تحت الشمس، تنقّي الأرز أو العدس، وتراقب نموّ التينة الخضراء، (لا توجد صورة على انستغرام تثبت خضرتها). لا ترسل أمي رسالة، ولا تنتظر رسالة، فليس لديها من القلق إلاّ بكاء غامض للحفيد الجديد.
هذه الكواكب والتطبيقات والثورات الزرقاء، وهذه الحروب التي تشتعل وتنطفئ مثل اللهب في المقلاة، وهذه الحكايات المرئية والمقروءة والمسموعة.. غير الملموسة، وهذه الصور التي تعرّضت للقصّ واللصق والتلاعب بالألوان، وهذه العواطف المفاجئة في حبّ البلاد، وهذه المواقف التي لا تقف على قدمين، كلها، كلّها تختصرها أمي الأصغر من النكبة والأكبر من النكسة، بحرفين ملتصقين حفظتهما عام ألفين وواحد: "نِتْ"!