"أنا فوق الشجرة"!

لا أذكر أنّي ندمت، بدليل أنّ أصابعي مكتملة، ولا أثر لجروح قطعية فيها، كما أنّها تؤدّي وظائفها بكفاءة في الغضب والسأم. لم أفرك كفيّ حسرة مثلما هو شائع في المسلسلات التاريخية وأقذف في مشهد منفعل بكأس النحاس خارج الكادر. لم أُجنّ كي أجرح شفتي السفلى بالعضّ حتى أدميها وأخسر أول نعمة في الحب، وفي كتاباتي الركيكة على جدار ثانوية البنات أسقطتُ لازمة الحسرة والأسف "يا ليت شعري"، وبدأت من دون مقدّمة اضطرارية بـ"الغزل العبّاسي".اضافة اعلان
خسارات كثيرة تركتها ورائي لم أقل من شفتين داميتين "لو أنّي ربحتها"، بل كانت تسقط (أو ربّما كنتُ أسقطها) مثل كيس الفاكهة الناضجة. رميتُ خاتماً ذهبياً في نهر، وساعة رمليّة في وادٍ، وأوراقاً كانت تثبت وجودي رشقتها على الاسفلت. فَقَدْتُ وافْتَقدْتُ وفُقِدتُ وما في عيني ماء يكفي لدمع عزيز، فأنا يا صديقتي حين أخسر رقماً أضيفُ حرفاً، وأحرف أخرى لمديح الفراغ، ولما تذهب امرأة أفتح قلبي للهواء الحُرْ.
أنفقتُ ساعات في المقهى خسرتُ فيها كلّ الألعاب الورقية والذهنية، بذّرت أيّاماً في الغرفة المحدودة التهوية أعدُّ أجنحة مروحة السقف، أسابيع جمعتها وذهبتُ فيها إلى رحلة أرضيّة لصيْد القمر، أشهر، وأشهر اعتزلتُ "الحياة الدنيا" لإطالة لحيتي وتفسير الضجر، أهدرتُ سنوات من أربعة عقود لأحفظ اسمي من أربعة مقاطع، وحين أُسألُ الآن عن اسمي أستعير أحرف "العبث"، فهذا العمر الطويل مثل الصعود، القصير مثل النزول، من دون أيّ إحساس بالندم.. أسميه العدم!
أعدتُ العصفور الذي في كفّي إلى الشجرة، فسَخِر أحد عشر عصفوراً من إنسان ذراعاه رخوتان، ويمجّد البطر. انسكب اللبن على البلاط فتركته عشاء لقطة جارتي السمينة، والمُلْكُ الذي لم أصنه كالرجال غنّيتُ له كالنساء. شَعري أبيض كما ترين، ولا سواد فيه لأغوي أرملة، وربّما تعتقدين أنّي ندمتُ كثيراً، وهذا تفسيرٌ شائعٌ لستُ ملزماً به؛ شعري أبيض لأنّ إناء الطحين سقط على رأسي، سوء حظ فقط لا يستدعي البكاء على خبز مُفترض.
لستُ نادماً على ما ذهب، وما سيذهب. أخطائي أعتني بترتيبها مثل أملاك الغائب، وخطاياي ألمّعها مثل نافذة تطلُّ على الدهشة. لا أكابرُ مثل المؤمن، ولا أفاخر مثل العاصي، أعرفُ أنّي مثل عدّاء خسر منذ الأمتار الأولى، فخرج من سباق الضاحية، وواصل السباق وحيداً إلى قاع المدينة، فمن المذلّ أن يصل متأخّراً بعد فضّ الشريط، وتوزيع الميداليات، والأرقام القياسية. أنا أيضاً خسرت منذ البداية، ولم أنتظم معكم في حركة السير المزدحمة، غافلتكم جميعاً وصعدتُ إلى الشجرة!