أنتيفا

معاذ دهيسات

تُعدّ حركةُ الحقوق المدنية علامةً فارقة في تاريخ المعضلة الاجتماعية لذوي البشرة السمراء في الولايات المتحدة الأميركية، فبداية التحرير بدأت بقانون (منفصلون ولكن متساوون) المستمد من تشريعات لويزيانا نهاية القرن التاسع عشر والذي ينص على قبول فصل الخدمات وتقديم الرعاية للمواطنين ضمن أماكن عرقية منفصلة ولكن دون تمييز فئة عرقية عن غيرها وكان هذا النص القانوني مرحلة من التشوّه الاجتماعي عرُفت بمسمى قوانين (جيم كرو)، وكرو هذا كناية عن اسم لرجل ذي بشرة سمراء كان بطل أغنية تحقيرية ساخرة استهدفت سياسة اندرو جاكسون التي وصفت بأنها تقدم التنازلات لفئة ذوي البشرة الملونة.اضافة اعلان
في هذه الفترة التاريخية كان الأميركيون الأفارقة يشكلون ما يقارب خمس سكان العالم الجديد وكانت الحرب الأهلية قد وضعت أوزارها ولكن الثقافات والمفاهيم التي سبقت الحرب لم تنتهِ بل عبرت ببساطة وسلاسة إلى ما بعد قانون وضع العبودية فكان التقارب الاجتماعي بين الفئات العرقية المندمجة حديثا بمزيد من الحقوق بطيئا، أو يمكن وصفه بتعاطٍ حذر بين الفئات العرقية لم يوقف التفاعل، ولكن البناء الاجتماعي عانى من أساس مشوّه سيتحول إلى جرح مفتوح ما أن يبرأ حتى ينكأ من جديد.
كانت عقود القرن العشرين أميركية بامتياز شهدت أحداثا كبرى حيث ختم نصف القرن بتسيّد الولايات المتحدة لما وصف بالعالم الحر، وبرزت تجربة مهمة التقطها العالم لعضو الكونجرس الأميركي جوزيف مكارثي الذي اتهم أعضاء بالحكومة بالعمالة للشيوعية، كانت الحرب الباردة تستعر حينها مما جعل اتهامات مكارثي تلقى آذانا صاغية أدت لسجن البعض بالعمالة دون أدلة وهو ما عرف فيما بعد بالمكارثية أو توجيه الاتهامات بالتآمر والخيانة دون الالتفات للأدلة.
تم طرد ما يقارب عشرة آلاف موظف حكومي بناء على هذه الموجة المجنونة وزج بالسجن المئات ومن بين هؤلاء كان الشهير مارتن لوثر كينغ، كانت الأحداث تسير بتسلسل نحو مشهد عالمي جديد بصعود رئيس جديد للبيت البيضاوي منتصراً بشكل ساحق في ما يقارب أربعين ولاية، حيث ظهر ايزنهاور بقناعاته التامة وإيمانه بأن التغيير قد حان لكل هذا التشوه الاجتماعي فكانت خلاصة هذه التحولات من خلال ما عرف بـ (قضية براون ضد مجلس التعليم) مطلع 1954 والتي خلصت بقرار المحكمة العليا بعدم دستورية إنشاء مدارس منفصلة بين السود والبيض.
لم تتوقف بعد ذلك حركة الحقوق المدنية بل استمرت بموجة عارمة في الستينيات حتى صدور قانون 1964 الذي حظر بشكل قاطع كل أشكال العنصرية، وتم بعد ذلك العمل على نقل القانون إلى واقع تطبيقي منذ تاريخه وشملت محاولات التطبيق تحقيق الاكتفاء الذاتي داخل مجتمعات الأميركيين الأفارقة واستمر التطور حتى وصل أول رئيس أميركي من أصل أفريقي والذي بالمناسبة حصلت في عهده أربعة اعتداءات من قبل الشرطة على مواطنين من ذوي البشرة السمراء.
مرت معضلة ذوي البشرة الملونة في الولايات المتحدة بتطورات مختلفة ولكن يسجل أنه تم احتواؤها خلال كل تجلياتها من الانحدار نحو الأدلجة فكانت دوما ترد إلى جذرها الاقتصادي والاجتماعي.
المختلف اليوم وبشكل لافت هو ما تحاول الجبهة الإعلامية المسيطرة فرضه عبر إخراج الحالة من سياقها الاجتماعي التاريخي نحو تصويرها كحالة فكرية عقائدية عبر تصعيد خطابات لويس فركان وترجمتها وبثها وظهور الذراع العسكرية لليسار (أنتيفا)، عمل كبير يشابه إلى حد التطابق الجبهة الإعلامية التي حكمت مفردات ما عرف بالربيع العربي حيث إجبار المجتمع على قراءة قضاياه الاقتصادية والاجتماعية والتنموية ببشاعة أيديولوجية مدمرة.