أنتَ تحذفُ نصف عمرك! (1 ـ 2)

كم ستعيشُ لو تجاوزتَ كلَّ ذبحات القلب الخاطفةِ، وأدمنْتَ ألم النساء كالضرب في موضع التخدير، وخرجتَ من نشرة أخبار المساء مقتنعاً بعقل مغمض بكلِّ ما أورده "الناطق الرسميّ" عن أسباب الهزيمةِ الأخيرة..، وكَمْ ستعيشُ لو أخلصْتَ للعيش المحدود التكاليف، وأمضيتَ عمركَ كله في مكانِ إقامتكَ الأول..؛ لا تسرف كثيرا في الأمل: ستونَ عاما تكفي للحلم في الشرق!  اضافة اعلان
وأنتَ لم تفعل في نصف عمركَ سوى الحلم؛ كنتَ لمَّا تيأس من المشي الذي لا يقودكَ خطوةً واحدةً إلى الأمام، تعودُ ألف خطوةٍ محسوبة إلى الوراء، تنتهي بكَ دائماً إلى السرير، هناكَ تشعرُ بأمانٍ نسبيٍّ، فتستدعي كلَّ ما أخفَقْتَ في السير إليه، إلى عتمتكِ تحتَ اللحاف، تفكِّر فيه كثيرا وتقلبه على عدَّةِ وجوه ممكنة، تنامُ قبل أنْ تجزمَ أمرَ إمكانيته؛ فيأتيكَ طيِّعاً في الحلم!
حلمْتَ بامرأةٍ واحدةٍ فقط تصادفها في اليقظة، وتكلمكَ بعاديَّةٍ شديدةٍ عن الشوق الذي له طعم الماء المالح، وبعد يومين تتأكَّدُ هي أنَّكَ أنتَ الذي أمامها الآن آخر الشوق، كحبيبات السكر التي استعصت على الذوبان في بقيَّة الشاي؛ حلوٌ أنتَ ولستَ متأكِّدا من ذلك تماما، لأنَّكَ تجلسُ في المقهى وتطلبُ شايا غير مُحلَّى، وتواصل الاعتقادَ أنَّ نساء الأرض لا يجتمعنَ إلا في رأسِكَ المُتْعَب، وقصيدة الشاعر!
بلا معنى مُحَدَّدٍ عشتَ، مجرد دوران مُفْرَغٍ كان سيْرُ حياتكَ طوالَ نصف العمر، تُحاولُ أنْ تفهَمَ ما يدورُ حولكَ؛ فتساءلتَ في داخلكَ العميق: لماذا نقَصَت الأرضُ العربية من أربعة أطراف ضربة فضربة في هزيمةٍ واحدةٍ. عرفتَ فيما بعد الجواب، قرأتَهُ في روايةٍ ممنوعةٍ من التداول، أحْرَقَتْها والدتكَ التي كانت تحرصُ على تخليص أشيائكِ، مما يُسبِّبُ "وجَعَ الرأس"، ولما جاءَ امتحانُ التاريخ، قفزتَ برشاقةٍ عن سؤال يطلبُ أسبابا مباشرة عن الانتكاس الذي حصل في صيف عربي بعيد؛ فكتبتَ بجديَّةٍ بالغة: "لم أكن وُلدْتُ بعد"!   
ما كُنتَ تتقنُ الكذبَ، شابٌ مفضوح العينين أنتَ دائماً، وثرثرةُ قلبكَ لا تحتاجُ سوى نصف بأس سرعة الصوت، حتى تنطلقَ على لسانِكَ كالرصاص الذي لا تعوقه فواصل الاستدراك. ما فكَّرتَ يوماً أنْ تكونَ موارباً تخدعُ امرأةً من وراء ستار، أو تنسبُ إلى نفسكَ صفة لا تتوفَّرُ بشكل واضحٍ في شخصيَّتكِ البسيطة مثل كفٍّ بلا خطوط؛ وربَّما لم تضطر لذلك، فحياتكَ في نصفها نبتَتْ في مترٍ ونصف من المساحة الممتلئة ببشر ألفْتَ وجوههم، وتعرفُ أيَّ نوعٍ من التحية يودّون!
الحياةُ كانت مقتضبة، وخبراتكَ فيها لا تكفي أكثر من مصافحة امرأةٍ عابرة تسألكَ عن بيت رجلٍ أتعب قلبَها بالغياب؛ وتكادُ تجنُّ من الحيرة: هل يمكنُ أنْ تتحوَّل النساء إلى رام يُخطئُ الهدف، فيجلسنَ على مقعد الحديقة يُدندنَّ بأغنيات الوحدة؛ ولا تعلمُ حينَها أنَّكَ ستعرفُ في يومٍ ما امرأة عربيَّة الجمال، تُحادثكَ من بيتها الفارهِ في "جوتنبرج"، تماما على الساحل الغربيِّ السويدي، وتدعوكَ بصراحة شديدة لتطوي وحدتها!
لم تغامر، أعرفُ ذلكَ جيِّداً، وعلى دفتر مادة "العلوم الإسلامية" كتبتَ الحكمة التي لقنَّكَ إياها مدرِّسُ الدين العصبيّ:"حريَّتُكَ تنتهي عندما تبدأ حريَّةُ الآخرين"؛ فأطلتَ العدَّ عن العشرة، وفضَّلتَ لمعان الذهب الصامت، وبحثتَ عن مكانٍ لرأسكَ بين مجمل الرؤوس، ولم تدعُ على اليد الغليظة بالكسر، وما كنتَ شديد الانحناء، فلم تنخفض لتقبيلها!
جلستَ كالبناءِ المهجور، تظنُّ بسذاجةِ الطيِّبينَ، الذين يتزاوجون من دون واسطة القُبَل، أنَّ عمركَ قد اكتمَلَ في منتصفه، وما سيأتي لن يكونَ أكثر من أحلام تتكرَّرُ في النوم على الجنب الآخر!

[email protected]