أنتَ في الثلاثين!

..وهذا يَعْني أنكَ بدأتَ الحياة للتو!

قبلَ ذلك، في العشرين تحديدا، كنتَ تعيشُ على سبيل التمهيد؛ تخوضُ تجاربَ حبٍّ ركيكة، تنتهي بكَ دائما إلى الخسارة الفادحة، التي لها طعمٌ لاذعٌ، مُباغتٌ مثلَ مذاق الكحول لأول مرَّة.. وليس الحالُ أفضل في المرَّة الأخيرة؛ فهو بلا معنى محدَّد عندما تنتهي دائما على الرصيف، ومعدتكَ خالية تماما: من الشراب والطعام ومرارة القبلة التي ابتلعتها على خواء!

اضافة اعلان

لم تكن تأخذكَ امرأةٌ على محمل الجَدِّ، وكنتَ دائما تطلبُ الشفاءَ من فتيات يقايضنكَ الحنانَ البارد بـ"كرت موبايل مشحون"، ثمَّ تمضي إلى نساءٍ خبيرات يضْجُرْنَ سريعا من طيبتكَ الزائدة، وقميصكَ المفتوح من أمام على لحم طريٍّ، فتخرجُ دائما وحيدا؛ كالألفِ بعد واو الجماعة!

لكنَّكَ الآن، في الثلاثين، تحتاجُ إلى تغيير قميصكَ المقدود من دُبر..، كلَّ ثلاثاء!

تضطرُّ إلى الاستعانة بمخزون لغوي فضفاض يُعينُكَ على الكذب، في كلِّ المواعيد التي تصلُ إليْها متأخرا، حتى لا يفوتكَ خيط دخان يمشي بكَ إلى يقين جديد..، بامرأة استكملت كلَّ معاني الثلاثين!

لكَ هاتفٌ لا يملُّ الرنين؛ كلُّ اسم محفوظ بأغنية مختلفة: الأولى تناديكَ بدلال أوَّل العشرين "يا واد يا تقيل"، والثانية التي في هدوء منتصف العشرين، تناديها بكذب فاتر كخمول صوت محمد عبدالوهاب، أنها "كلِّ ما فيك يا حبيبي.. حبيبي"، والثالثة، والرابعة، والخامسة تحيلهنَّ إلى عبدالحليم حافظ، يخبرهنَّ بكياسة شديدة: "مشغولْ وحياتكْ مشغول"!

أما الأخيرةُ، التي مسَّها قلقُ الثلاثين، وتنتظرها بحماسة القتيل لمجيء القاتل، فإنَّها إنْ رنَّت "تكفُّ الأرضُ عن الدورانْ"!

أنتَ في الثلاثين تعتادُ على أنْ تأتيكَ الحياةُ، تتهيَّأ لمصادَفتِها في أيِّ لحظة..، حينَ تعدُّ الباقي الذي يُنْقدُكَ إياهُ البائع، يكونُ في طابور "الكاشير" المقتضب منْ يعطيكَ الباقي من حياته التي بدأت في الثلاثين!

ولما تتوقَّفُ عند الإشارة المُضْجِرَة، الكثيرة الاحمرار، تتأفَّفُ تقولُ بـ"دلع الثلاثين": "هنا أضعتُ شهريْن من سنتيْن في أجمل عُمْر بين العُمْريْن". وتكونُ في السيارة الفارهة امرأة على استعداد لقطع الإشارة الحمراء وراءَكَ.. لا شيءَ تريدُ إلا أنْ تلحَقَ بأحد عُمْريْك!

لا تستغرب يا عزيزي؛ فأنتَ في الثلاثين، تجلسُ في مكان خفيف الإضاءة، تأتيكَ قبلة سريعة.. تسعى بكامل استدارتها إليكَ..، إلى شفتيكَ الناقصتيْن!

لكن احذر.. أنتَ أيضا في الثلاثين؛ وهذا يعني أنَّ الحياة بدأت بالرحيل.. للتو!

.. منذُ أنْ ترتخي أمامَ إلحاحِ أمِّكَ التي تروحُ تعدِّدُ على مسمعكَ، بنوبتيْن صباحية ومسائية، فوائد أنْ تنامَ على كفِّ "بنت حلال"، ولما يصيرُ الأصدقاءُ يطالبونكَ إثبات لياقتكَ الحسيَّة بولد يُشبهكَ بكل نقصانِكَ..، ولمَّا لا يُصدِّقونَ حكاياتكَ عن النساء الكثيرات اللواتي يطلعْنَ كلَّ صباح من حلمكَ، ويقلنَ بدرجات متفاوتة الأنوثة: "صباحُكَ عسل". ولا يُصدِّقُ أصدقاؤكَ، مهما أقسَمْتَ، إلا أنَّ مساءَكَ كان "سُكَّر خفيف"!

ترضخُ.. وتتزوَّج مثلهم تماما؛ زوجة مواظبة على الإنجاب، تنجبُ لكَ حتى ترضي الجدَّ السابع. تأخذكَ الحياة، كما أخذتهم، بعيدا، تقلبُ كلَّ حساباتكَ في البنوك التي تستدرجُكَ بفائدة طويلة البال. لكنَّكَ على الأغلب لن تحتمل، فقد تبيعُ سيارتكَ وتركبُ باص مؤسسة النقل العام، مثلكَ كالذين يتهيَّأون لمغادرة الثلاثين!

عندما تكتشفُ صدفة أنكَ مصابٌ بالسكري، وعليكَ بأنْ تتخذَ حِمْيَة من كلِّ طعم حلو، ولما تتعرَّفُ على خمسة أنواع من الأمراض الباطنية في جسدكَ النحيل، وحينَ لا تستطيعُ الجلوسَ على كرسيَّيْن متتاليَيْن لألم "البواسير" المزمن، وإذْ تمشي الحياة على عجلة من أمرها، ولا ترحمُ لهاثكَ المبلول...، تذكَّر، تذكَّر جيِّدا وبكثير من الأسف: أنتَ لم تعُدْ في الثلاثين!

[email protected]