أنتَ لم تعد في الثلاثين!

 وإنْ جاءتكَ خمسة عروض مستعجلة للزواج المتأخِّر، وإن كان الحبُّ ما يزالُ يأتيكَ كالألم الشهريِّ، وإنْ تأخّرتْ إصابتكَ الوراثية الحتمية بالسكَّري، وبقي الأسود في شعر لحيتكَ الشحيحة هو الغالب، وإنْ أصبحتَ صديقاً فيسبوكياً نشطاً لدى الطفلة التي ولدتْ بين حصار العراق وغزوه، وسألتَ عمتكَ المسالمة إنْ كنتَ تبدو أصغر بعامين أو أكبر بشهرين من تاريخ ميلادكَ التعيس، ذلك الذي تزامن مع بدء العداء بين “الخميني” و”صدام”، ومشي “السادات” إلى “إسرائيل” حافياً!اضافة اعلان
أنتَ واقفٌ، في منتصف الثلاثين، مثل استراحة طائر على غصن ظليل، يودُّ لو يبقى حتى يُكمِلَ غناءه، وعينه على صبيٍّ يقتربُ من الشجرة يحملُ عصا كأنها سلاحٌ، وكأنّها ناي، ويفرُّ الطائر، يلوذ بسمائه، لأنه لا يعرف عن العصا إلا أنها سلاحٌ، وأنتَ الآن على الغصن الظليل، لا يكتمل غناؤكَ، فقد نهرتَ الصبيَّ، وسقط الناي في تلِّ القشِّ، ولذتَ بأرضكَ، فلا تعرف عن الناي إلاّ أنه، كالعمر الذي بين يديك، قصبة جوفاء.
أنت الآن بعد الخامسة والثلاثين، ولا خبرة كافية لديك للعيش في هذا العمر، فحين كنتَ طفلاً نكِداً كان طموكَ أنْ تتجاوز الثلاثين بأيام أُخر، وكلُّ من يعرفكَ كانَ يتوقّع أنْ تصعد إلى السماء في حادث درّاجة خارج عمّان، والذين رأوك في حبِّ العشرين توقعوا أن يَستكمل اسمكَ مجانين العصر العباسيِّ، ويلتصق اسمكَ “المجنون”، باسمها المسيحيِّ، كنتَ دائماً تتنبأ في مشيك شكل الخاتمة: مرضٌ “نادر”، عينُ جارتك العاقر، مغادرة الرواية قبل صحو المؤلف، كلُّ غيابٍ كان حاضراً، إلا أنْ تصل السادسة والثلاثين، لكنك وصلتْ، وتبحث الآن في عيادات الدوّار الثالث عن دليل الحياة قبل الأربعين.
ولدتَ، فاشتعلتْ الحربُ ثماني سنوات، بين “الخميني” و”صدام”، وفي الثانية لقي “السادات” مصرعه على الهواء، ولم يحزن “الكنيست”، وصلتَ العاشرة بعد أنْ خرجتَ مصادفة من موت مصادف، ثمّ انطفأت حرب أخرى، إذ خرجَ “صدام” بعد دخوله المغامرة، وتركَ لكَ حوادث تعينكَ على حساب عمركَ، وأنتَ في العشرين سيستمرُّ دخانه في الصعود، وأنتَ في الرابعة والعشرين سيُعرض في مؤتمر صحافي أمريكيٍّ للفحص الطبيّ بلحية كثة، فترتجفُ ساقكَ اليُمْنى، ولن تطمئن، حتى حين يسقط في حفرة تحت المقصلة قبل وصولكَ الثلاثين، عندها ستسأل أسئلتك العبثية: لماذا قُتِلَ، ولماذا ولدْتَ، بلْ هل كانَ من الضروريِّ أنْ تبدأ الحرب؟!
.. وهذه الحروب من حولكَ الآن لتؤرِّخ عمركَ بالأيّام، كبُرْتَ أسبوعين يا شقيقي هذا اليوم، فقد وقعتْ مجزرةٌ في الشرق، وتزامنتْ مع أخرى في الغرب، واكتملت الثالثة في الشمال، بمراعاة فروق التوقيت، فعلى مهلكَ أيُّها الصبيُّ الذي كنتَ في الثالثة حين قُتلتْ مرّتين “صبرا وشاتيلا”، وتجنّبتَ في السابعة كلّ فصول “حرب المخيمات”، ولما كبرتَ عرفتَ أنَّ عمركَ يطولُ لأنَكَ لم تصبْ بـ “مرض نادر”، وجارتكَ العاقر أنجبتْ قمراً، وأعانكَ فضولكَ على إكمال الرواية، ولأنّكَ تفاديتَ المجزرة حين كنتَ في الثالثة، أنتَ الآن لم تعد في الثلاثين. فاخجل!