أنظار تركيا على طرابلس: التداعيات على الحرب الأهلية الليبية

سونر جاغابتاي؛ وبين فيشمان* - (معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى) 19/12/2019

اضافة اعلان

في العاشر من كانون الأول (ديسمبر)، أعلن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان عن استعداده لنشر قوات في ليبيا إذا طلبت "حكومة الوفاق الوطني" المدعومة من الأمم المتحدة في طرابلس ذلك. وكرّر هذا العرض خلال لقاءٍ جمعه في الخامس عشر من كانون الأول (ديسمبر) مع رئيس وزراء "حكومة الوفاق الوطني" فايز السراج في أنقرة -وهي الزيارة التي جاءت بعد أن عاود اللواء خليفة حفتر، الذي يقود القوات التي تطلق على نفسها اسم "الجيش الوطني الليبي" في سعيه إلى الحلول محل "حكومة الوفاق الوطني"، التقدم نحو طرابلس لأخذها بالقوة.
وفي الأثناء، وقّعت تركيا اتفاقيتين مثيرتين للجدل مع حكومة طرابلس خلال تشرين الثاني (نوفمبر)، هما مذكرة تفاهم حول تزويد "حكومة الوفاق الوطني" بالأسلحة والتدريب والأفراد العسكريين، والتي صادقت عليها طرابلس رسمياً في 19 كانون الأول (ديسمبر)، واتفاقية بحرية في 28 تشرين الثاني (نوفمبر) لترسيم حدود المناطق الاقتصادية الحصرية في مياه البحر المتوسط التي تفصل بين البلدين. وأثارت هذه الخطوة الأخيرة احتجاجات اليونان ومصر، وأدانها المجلس الأوروبي بشدة.
تعكس هذه التطورات وغيرها مكانة ليبيا المتنامية كنقطة محورية في السياسة الخارجية التركية التي تعتبر ذلك البلد، على ما يبدو، مسرحاً تستخدمه لمنافسة خصومها القدامى (اليونان) والجدد (مصر والإمارات العربية المتحدة) بواسطة وكلاء. وفي الوقت نفسه، أصبحت حكومة الوفاق الوطني الليبية تعتمد بشكل متزايد على أنقرة لأسباب عسكرية -عدم وجود حلفاء آخرين على استعداد لتوفير أسلحة تستطيع مواجهة الطائرات المسيّرة المقدمة من الإمارات للجيش الوطني الليبي، ووصول المرتزقة الروس الذين أضافوا تقنيات جديدة ودقة في الحرب التي يشنها حفتر ضد طرابلس.
وما لم تستثمر واشنطن المزيد من الطاقة الدبلوماسية وتدعم بالكامل المبادرة الألمانية لتنفيذ اتفاق وقف إطلاق النار والعودة إلى مفاوضات السلام، فسوف تتصاعد حرب الوكالة في ليبيا حتماً. وفي هذا السيناريو، يمكن أن تصبح تركيا وروسيا -وليس الولايات المتحدة أو شركاؤها الأوروبيون- الحكمَين في تحديد مستقبل ليبيا.
صديقة تركيا الوحيدة في المنطقة
تنبع سياسة أنقرة تجاه ليبيا من عزلتها في شرق البحر المتوسط، والتي تفاقمت تدريجياً منذ انهيار العلاقات التركية-الإسرائيلية في العام 2010، وسوء تقدير سياسة أردوغان الإقليمية خلال انتفاضات "الربيع العربي". وعلى الجبهة الأخيرة، كلفه دعمه لجماعة الإخوان المسلمين في مصر في الفترة 2011-2012 الكثير بعد أن أُطيح بتلك الحكومة لتحل محلها إدارة عسكرية. وعندما رفض الاعتراف بالحكومة اللاحقة للرئيس عبد الفتاح السيسي، تسبب بنفور الأعضاء النافذين في مجلس التعاون الخليجي، ولا سيما السعودية والإمارات، الذين دعموا السيسي وكانوا قلقين للغاية بشأن دور الإخوان والحركات الإسلامية السياسية الأخرى في السياسة الإقليمية.
في الأثناء، ذلك، أدى دعم تركيا للجماعات المتمردة في الحرب السورية إلى وضعها في مسار تصادمي مع دمشق وإيران، وكذلك مع حلفاء طهران الإقليميين في لبنان والحكومة العراقية. وباختصار، كانت خسارة أنقرة للشركاء الإقليميين شبه كاملة بحلول الوقت الذي اندلعت فيه الحرب الأهلية في ليبيا في العام 2014، مما مهّد الطريق أمام تحوّل الأنظار التركية نحو ليبيا.
في ذلك الوقت، ألقى أردوغان دعمه وراء تحالف "فجر ليبيا" في طرابلس-مصراتة، الذي عارض تحالف "كرامة ليبيا" التابع لحفتر. وكانت مصر والإمارات قلقتين من تنامي الإسلام السياسي في ليبيا، وحريصتين على إضعاف أردوغان، وسرعان ما أيّدتا حفتر وأجندته المعلنة "المناهضة للإسلاميين وللإرهاب". ومن بين المساعدات الأخرى التي قدمتاها كان تنفيذهما غارات جوية نيابة عنه.
اليوم كثّفت حكومتا القاهرة وأبوظبي دعمهما لهجمات حفتر الأخيرة، بما في ذلك إمداد قواته بالتكنولوجيا الإماراتية لشن ضربات بطائرات مسيرة، وبالمشغّلين الإماراتيين لهذه الطائرات. ومن جهتها، سعت تركيا إلى التصدّي لهذه الخطوات عبر تزويد حكومة الوفاق الوطني بطائرات مسيّرة خاصة بها (على الرغم من أنها أقل مما منحته الإمارات لحفتر)، بالإضافة إلى أسلحة وناقلات جنود مدرعة إضافية. وكما جاء في تقرير صدر مؤخراً عن الأمم المتحدة، فقد تمت جميع عمليات نقل هذه الأسلحة إلى جماعات متعددة في تجاهل صارخ لقرار مجلس الأمن بحظر توريد الأسلحة إلى ليبيا.
مواجهة كتلة شرق البحر المتوسط
وجدت تركيا نفسها مؤخراً في مواجهة تحالف ناشئ من الخصوم القدامى والجدد عبر شرق البحر المتوسط، وخاصة قبرص ومصر واليونان وإسرائيل. ونظراً إلى مراوحة علاقتها مع هذه الدول بين الفتور والعدائية، تشعر أنقرة بالقلق من مدى اصطفاف هذه الدول في تعاون استراتيجي، والذي تضمّن مبادرات مشتركة في المجالات الدبلوماسية والعسكرية والطاقة.
على سبيل المثال، بعد فترة وجيزة من وصول السيسي إلى السلطة، بدأ محادثات مع اليونان لترسيم حدود المناطق البحرية الاقتصادية بين البلدين. ثم عقدت قمةً ثلاثية في تشرين الثاني (نوفمبر) 2014 للترويج لاتفاق لتزويد مصر بالغاز الطبيعي من الحقول البحرية الواقعة قبالة الساحل القبرصي. كما استضافت القاهرة الاجتماع الافتتاحي لمنتدى غاز شرق المتوسط في وقت سابق من هذا العام، ولوحظ استثناء تركيا منه.
وعلى الجبهة العسكرية، تجري مصر مناورات جوية مشتركة مع اليونان منذ العام 2015، وتم تنفيذ المناورة الأولى المسماة "ميدوزا" على جزيرة رودس اليونانية على بعد 12 ميلاً فقط من السواحل التركية. وبدأت القوات القبرصية المشارَكة في تدريبات "ميدوزا" في العام 2018؛ وبشكل منفصل، نفّذت هذه القوات ثلاث جولات من التدريبات المشتركة في إسرائيل في وقت سابق من هذا العام.
تهدف الاتفاقية البحرية الجديدة التي أبرمتها أنقرة مع طرابلس جزئياً إلى التصدي لهذا التعاون. فقد رسم الاتفاق الموقع في 28 تشرين الثاني (نوفمبر) محوراً بحرياً افتراضياً بين دالامان الواقعة على الساحل الجنوبي الغربي لتركيا، ودرنة الواقعة على الساحل الشمالي الشرقي لليبيا (بعيداً عن مجال السيطرة العملية لحكومة الوفاق الوطني). ومن وجهة نظر أردوغان، يتيح له هذا الخط اعتراض التكتل البحري الناشئ بين قبرص ومصر واليونان وإسرائيل، والتصدي في الوقت نفسه للضغط المصري والإماراتي على حكومة الوفاق الوطني.
التداعيات المحتملة داخل ليبيا
على الرغم من أن أوروبا والولايات المتحدة قد حذرتا حكومة الوفاق الوطني من أن إقامة علاقات أوثق مع تركيا من شأنه أن يُعرّض دعمها للخطر في الغرب، إلا أن السلطات في طرابلس شعرت بعدم وجود خيار آخر أمامها بعد ثمانية أشهر من القتال المتجدد. وقد تفاقمت الخسائر العسكرية لقوات حكومة الوفاق الوطني بسبب الضربات بالطائرات الإماراتية المسيّرة والقناصة الروس، في حين ساءت الأوضاع في العاصمة حيث يلتمس عشرات الآلاف من النازحين داخلياً اللجوء في طرابلس. (ويشكل أنصار حكومة الوفاق الوطني في طرابلس ومصراتة غالبية سكان ليبيا، لكن حفتر وحلفاؤه من الشرق يسيطرون على مساحة أكبر بكثير من الأراضي).
ولا يُظهِر حفتر أي اهتمام بالتسوية السياسية، ولا يفعل المجتمع الدولي الكثير للضغط على مؤيديه الأجانب، فيمكن أن تساعد مذكرة الدفاع التركية-الليبية الجديدة في ردع المزيد من التصعيد -خاصة وأن مصر لا ترغب في مواجهة عسكرية مع تركيا. وقد يفتح المزيد من التصعيد في ليبيا المجال أمام أنقرة وروسيا للحلول محل الغرب والأمم المتحدة في المعركة الدائرة لتحديد مستقبل ليبيا. وعلى الرغم من أن أردوغان وفلاديمير بوتين يدعمان حالياً طرفين متعارضين في الحرب الأهلية، فإن سجل عملياتهما في سورية يكشف الكثير عن قدرتهما على التوصل إلى تفاهم في ليبيا. وقد تحدَّث الزعيمان عن الوضع في ليبيا عبر الهاتف في 17 كانون الأول (ديسمبر)، وتقرر أن يزور بوتين تركيا في كانون الثاني (يناير) لحضور اجتماع يركز بشكل خاص على هذه القضية.
الخاتمة
لم تضطلع إدارة ترامب حتى الآن بدور مهم خلال الهجوم الذي شنته قوات حفتر. ففي 13 تشرين الثاني (نوفمبر)، استضافت الإدارة الأميركية اثنين من كبار مسؤولي حكومة الوفاق الوطني في واشنطن وأصدرت بياناً مشتركاً يعارض الحملة العسكرية للجيش الوطني الليبي. ولكن، حين التقى وفدٌ أميركي برئاسة نائب مستشار الأمن القومي فيكتوريا كوتس مع حفتر في المنطقة بعد أحد عشر يوماً، لم يصدر أي تحذير علني بهذا الشأن. وبعد أسبوعين من ذلك، صرّح حفتر "حانت ساعة الصفر"، وبعد ذلك أعاد"الجيش الوطني الليبي تنشيط هجومه.
سمح التردد الأميركي فيما يتعلق بمعركة طرابلس للروس باكتساب النفوذ في التخوم الجنوبية لحلف شمال الأطلسي. كما أنه أثار نقطة احتكاك غير ضرورية مع تركيا، وكذلك بين أنقرة وحلفاء آخرين للولايات المتحدة في شرق البحر المتوسط. وأصبح المجال ضيقاً اليوم أمام واشنطن لمنع وقوع المزيد من أعمال العنف في ليبيا والحد من نفوذ موسكو هناك. ولتحقيق ذلك، عليها أن تدعم بالكامل الجهود التي تقودها ألمانيا لإقناع جميع الأطراف الخارجية ذات الصلة -بما في ذلك تركيا وخصومها الإقليميين- بالالتزام بوقف إطلاق النار ووقف عمليات نقل الأسلحة. ويجب أن يهدد المسؤولون الأميركيون أيضاً باستخدام صلاحيات العقوبات القائمة ضد منتهكي اتفاق وقف إطلاق النار بعد التوقيع عليه.
سوف تتعثر مبادرة برلين من دون مشاركة الولايات المتحدة، لأن الوقائع على الأرض تؤدي إلى المزيد من العنف وتزيد التوترات بين الحلفاء الأميركيين في المنطقة. والطريقة المثلى لكبح تدخل موسكو لا تتمثل في استمالة حفتر، بل في الضغط على الدول الأخرى الداعمة له. وبينما تسعى هذه الدول إلى إقامة علاقات إيجابية مع واشنطن، يجب الاستفادة من هذه الرغبة كوسيلة ضغظ للحصول على دعمها لعملية برلين ووقف إطلاق النار الذي تمس الحاجة إليه.

*سونر جاغابتاي: زميل "باير فاميلي" في معهد واشنطن ومؤلف كتاب "إمبراطورية أردوغان: تركيا وسياسة الشرق الأوسط". ويود أن يشكر دنيز يوكسل على مساعدتها على هذا التحليل.
*بين فيشمان: زميل رفيع في المعهد والمدير السابق لشمال إفريقيا في مجلس الأمن القومي الأميركي.