أن تبقى الجمرة متوهّجة

في أوّل السّنة الجديدة، يطيب لي أن أتعمشق سحابةً، أن أتسلّق جبلاً عالياً، برجاً أو مئذنةً، وأيمّم وجهي شطر الغرب، وأهتف بأعلى صوتي: أحبّك أيّتها البلاد البعيدة المضرّجة بالدّم. أحبّك من نهر الأردن المقدّس حيث تعمّد السيّد المسيح من مائه، حتى الوردة الحمراء الطّالعة من خاصرة المتوسّط غزّة، والتي أسماها أجدادنا الكنعانيّون باسم (هزاني)، حيث كانت وما تزال تعني القوّة والمنعة.

فيما مضى اعتدتُ أن أحتفل بالسّنة الجديدة من خلال الذّهاب إلى مكان قريب مطلّ على فلسطين، وفي غمرة بحثي هذا اكتشفت أنّ الأردن كلّه يطلّ على فلسطين ويعانقها، فالنّهر لم يكن في يوم من الأيّام حدّاً سياسيّاً، أو طبيعيّاً. النهر لم يكن سوى شريان التّراب الطويل، الذي يخترق هذا الجسد الواحد على مرّ العصور، ويضخّ فيه الحياة.

أقرب مكان عليّ كان (بيادر وادي السّير)، فأنت لو تصل الكلّية التّابعة لوكالة الغوث هناك في المساء، وتسير قليلاً باتّجاه (أبو السّوس)، وتلتفتّ إلى يمينك ستشاهد في البعيد أضواء القدس. أضواء برتقاليّة مطرّزة على قطيفة سوداء، تتلامع كأنّها حبّات دمع، وكأنّ هناك من ينادي عليك ويقول لك: تعاااااااااال. طبعاً مثل هذا المشهد لم يكن متيسّراً الليلة قبل الماضية بسبب المطر، فجمعت أفراد الأسرة وتحدّثت لهم عن البلاد.

في ليلة رأس السّنة الأخيرة، انخرطت في نوبة عظيمة من البكاء. إحساس جارف بالخسارة والخذلان داهمني حين تذكّرت بيتي البعيد على كتف القدس، طفولتي، أصدقاء الصّبا، وما آلت إليه حياتي. اكتشفت بغتةً أنّ ثمّة فراغاً، أو فجوةً كبيرة في هذه الحياة عمرها ثلاثةٌ وأربعون عاماً، هي فترة الغياب عن الوطن. الأمر يشبه أن يخطر ببال أحد الأطفال أن يتأمّل صورته في المرآة، فيلاحظ في المرآة صورة أخرى غير متوقّعة، صورة لرجل كهل في أواسط الخمسينيّات من عمره!! هذا الجسد ليس لي، هتفتُ. هذه الهيئة، هذه الملامح لا تدلّ عليّ. أنا بقيت هناك ولداً في الحادية عشرة من عمري، أسعى وراء الفراش في الحقول، وأجمع أبواق النّرجس، وحين أعود بها، وأضعها في كوب ماء على الطاولة، يرتعش البيت من شدّة الرائحة، فتتلوّى جدرانه، ويهتزّ سقفه، ويكاد يتحطّم فوق رؤوسنا.

في ليلة رأس السّنة رويت للأبناء الكثير من الحكايات التي جرت معي في البلاد، ثمّ سردتُ لهم وقائع حرب حزيران(يونيو) في العام 1967 التي عشت تفاصيلها، ورحلة الخروج من الوطن، وهي تلك الرحلة التي ابتدأت في اليوم الأوّل للحرب من منطقة شمال غربي القدس، وانتهت بعد أسبوع في منطقة الجفتلك القريبة من أريحا.

في هذه الأثناء نقل ابني الأصغر الحديث إلى وِجهةٍ أخرى حين قال: أرجوك يا والدي دعنا نتحدّث بصراحة، ونقول إنّ جيلكم خرّب بيتنا! كيف؟ تساءلتُ باندهاش. قال: سامحني، لقد أورَثَنا جيلكم كلّ هذه الهزائم التي تتحدّث عنها. لقد أضعتم البلاد، وظلّت الأوضاع تفلت من بين أيديكم وتتدحرج حتى وصلت الأمور إلى هذا الوضع المدمّر الذي تراه في فلسطين. قلتُ له: الوضع أكثر تعقيداً ممّا تظن، وثمّة لعبة كونيّة تشارك فيها أصابع كثيرة في العالم، فما الذي سنفعله؟ قال: هناك الكثير ممّا يمكن أن نقوم به، أقصد يقوم به جيلنا نحن. لا بدّ من تنظيف كلّ ذلك العفن الذي ملأ المرحلة، والبدء من جديد.

اضافة اعلان

كلّ عام وأنتم بخير، قلتُ لهم، وتابعت: المهم أن تبقى الجمرة متوهّجة، وأن تستمرّ النّار.

[email protected]