أوروبا تخسر حرب الطاقة.. وهكذا يمكن أن تقاوم

‏محتجون يتظاهرون ضد ارتفاع أسعار الطاقة في ساحة البرلمان في لندن - (أرشيفية)
‏محتجون يتظاهرون ضد ارتفاع أسعار الطاقة في ساحة البرلمان في لندن - (أرشيفية)
‏ترجمة: علاء الدين أبو زينة مارك ب. ميلز*‏ – (سيتي جورنال) 18/9/2022البنية التحتية والطاقة‏ ‏ تخاض الحروب على العديد من الجبهات. وحتى الآن، يفوز الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في حرب الطاقة. فقد أدى ارتفاع أسعار الطاقة الناجم عن انقطاع الإمدادات إلى تحييد ‏‏العقوبات‏‏ الغربية. ويبلغ رصيد الحساب الجاري في روسيا مستويات قياسية. وفي الوقت نفسه، تعمل القوى نفسها على إلغاء التصنيع في أوروبا أمام أعيننا مباشرة. ثمة صناعة تلو الأخرى تتراجع بسرعة، أو تُغلق، أو تفكر في الإغلاق إذا استمرت فوضى الطاقة. وتحدِّق بريطانيا في الإغلاق المحتمل لـ‏‏60 في المائة‏‏ من مُصنعيها. وتسير ألمانيا ومعظم أوروبا على الطريق نفسه.‏ ما تزال المناقشات حول كيفية إعادة بناء أوكرانيا عندما تنتهي الحرب البرية في النهاية هي السائدة، لكنّ قضية العَقد ستكون كيفية إعادة إنشاء البنية الأساسية الصناعية في أوروبا. في العادة، لا يمكن بسهولة إعادة تشغيل المنشآت الصناعية وسلاسل التوريد التي تستخدم الطاقة وتنتجها بمجرد إيقافها. وهذا درس واحد، على الأقل، كان ينبغي على صانعي السياسات أن يتعلموه من عمليات إغلاق “كوفيد”.‏ تتعلم أوروبا أهمية مرونة الطاقة وموثوقيتها وترى مدى أهمية الصناعات كثيفة الاستهلاك للطاقة للاقتصاد. ومع ارتفاع أسعار الغاز والكهرباء بنسبة تصل إلى 1.000 في المائة، فإن فواتير الوقود لصنع الصلب أو الألومنيوم أو الزجاج أو الأسمدة في أوروبا تتجاوز بكثير الثمن الذي يمكن بيع المنتجات النهائية به -ومن هنا تأتي الإغلاقات. وهذه المنتجات هي مدخلات لصناعات محلية الأخرى، من السيارات والبيرة إلى الزراعة، التي تتدافع كلها بحثًا عن مصادر أخرى أو ستضطر إلى أن تغلق نفسها.‏ كل هذه المذبحة الاقتصادية والاضطراب الجيوسياسي تنشأ من خسارة أوروبا 5 في المائة فقط من إجمالي إمدادات الطاقة. وتأتي معظم هذه الخسارة من انخفاض إجمالي بنسبة 20 في المائة في الغاز الطبيعي المتاح (بفضل مناورات روسيا)، والذي يشكل في حد ذاته حوالي ربع إجمالي الطاقة في الاتحاد الأوروبي. ولا يمكن سد هذه الفجوة من خلال زيادة مصادر الطاقة المتجددة التي يجري التبجح بوجودها في أوروبا. وما يزال مدى هذه الأزمة في مرحلة التطور، وسوف تعتمد الأضرار الجانبية المتجسدة في التضخم والوظائف والصادرات الآن على تقلبات الطبيعة (قدوم شتاء بارد قد يكون كارثيًا)، وعلى ما يتكشف من الحرب في أوكرانيا.‏ ‏‏ ليس لدى أوروبا العديد من الخيارات للتعامل مع حالات النقص الفورية. في الأساس، تم القيام بكل ما يمكن القيام به مسبقاً وبسرعة: تم تركيب محطات استيراد الغاز الطبيعي المسال العائمة؛ وإعادة إحياء محطات الفحم القديمة؛ والإبقاء على المحطات النووية التي كان من المقرر إيقاف تشغيلها؛ وتحويل العديد من الغلايات الصناعية من الغاز الطبيعي إلى زيت أكثر قابلية للاستبدال؛ وإرسال رسائل رمزية حول تقليل الطلب من خلال الاستحمام بالماء البارد وتعتيم الأضواء. والآن، أصبحت البدائل المتبقية لدى أوروبا في الأمد القريب مزيجًا وحشيًا من المزيد من إغلاق الأعمال، والتقنين الصريح، والإعانات التضخمية الضخمة للمواطنين، وعمليات الإنقاذ للصناعات. ويتحدث البعض مسبقاً عن تأميم الصناعات الحيوية، الأمر الذي من شأنه أن يمنح بوتين نصرًا آخر.‏ مما لا شك فيه أن صُناع السياسات يُصلُّون من أجل أن تكون فوضى الطاقة قصيرة الأجل، التي يعتقد المعظم أن الحياة ستعود بعدها إلى طبيعتها. لكن من المؤسف أن هذا يعني العودة إلى سياسات الطاقة نفسها التي سهلت قدوم هذه الفوضى في المقام الأول. ويقول المدافعون عن “تحول الطاقة” مسبقاً إن الطريق إلى التعافي والاستقلال عن الهيدروكربونات الروسية يتلخص في مضاعفة الالتزامات تجاه البدائل، أي تقنيات ‏‏الطاقة‏‏ الشمسية وطاقة الرياح وتقنيات البطاريات. إن ما لم يفهمه أو يعترف به العديد من صناع السياسات بعد هو أن سياسات الطاقة في العقود الأخيرة أصبحت ممكنة من خلال الاعتماد على كميات هائلة من الهيدروكربونات التقليدية الرخيصة القادمة من روسيا. وكان هذا، في المقام الأول، هو ما مكن القارة من وقف استخدام إمدادات الطاقة المحلية التقليدية الخاصة بها، مع الاستمرار في تشغيل الصناعات الحيوية كثيفة الاستهلاك للطاقة. وقد حررت تلك الواردات منخفضة التكلفة النقد لإنفاق بضعة تريليونات من الدولارات، بشكل مباشر وغير مباشر، على بناء آلات الطاقة البديلة. وكانت عواقب سياسات الطاقة هذه تتكشف قبل أن تغزو تقوم روسيا بغزو جارتها. كانت أسعار النفط بالفعل في نطاق 100 دولار للبرميل قبل الغزو. وشهدت أسعار الغاز الطبيعي والكهرباء ارتفاعا مماثلا بنسبة 1000 في المائة في أواخر العام 2021 عندما شهد شمال أوروبا جفافًا رياحيًا لمدة أسبوع: وهو نوع من الأحداث التي تحدث بانتظام في الطبيعة -وإنما التي لا يمكن التنبؤ بها بطبيعتها.‏ تتلخص القضية الاقتصادية الوجودية التي تواجه أوروبا في أعقاب حرب الطاقة الأولى في القرن الحادي والعشرين إذن في ما إذا كانت القارة قادرة على إعادة بناء العديد من الصناعات كثيفة الاستهلاك للطاقة التي أغلقت مسبقاً أو التي تواجه احتمال التوقف عن العمل. (يمكن أن تتضرر فئات معينة من الآلات، ولا سيما بعضها الداخلة في صناعة الزجاج والصلب، بشكل لا يمكن إصلاحه إذا ما تم إيقافها). أما إذا كانت هذه الشركات ستقرر المخاطرة بإنفاق رأس المال لإعادة فتحها فخاضع للتكهنات حول ما إذا كانت إمدادات الطاقة المتوقعة ستكون موثوقة ورخيصة على حد سواء. وإذا تم العثور على الإجابة في مواقع في آسيا، أو أفريقيا، أو حتى روسيا، فسيكون هذا هو المكان الذي تهاجر إليه هذه الوظائف وسلاسل التوريد والفوائد الاقتصادية.‏ يجب أن يعرف صانعو السياسات الأوروبيون الآن أن الاعتماد على تقنيات البطاريات بدلاً من الهيدروكربونات يتطلب الإجابة عن سؤال أساسي: كيف يمكن للاقتصاد تخزين ما يكفي من الطاقة للبقاء على قيد الحياة في مواجهة الجفاف الطبيعي للرياح أو الشمس لمدة أسبوع، وهي مظاهر شائعة -أو الاضطرابات الأطول الناتجة عن الكوارث الطبيعية والكوارث التي من صنع الإنسان والتدخل الجيوسياسي؟ نحن نعرف الإجابة عندما يتعلق الأمر بالطاقة التقليدية.‏ في المتوسط، تخزن الاقتصادات بحجم الولايات المتحدة (وفي الأوقات العادية، الاتحاد الأوروبي) ما يكفي لشهر أو شهرين من الفحم، أو النفط، أو الغاز الطبيعي. ويكون تخزين مثل هذه الكميات من الهيدروكربونات سهلاً نسبيًا وغير مكلف. ويقترح المدافعون عن تحويل الطاقة أن بناء المزيد من البطاريات يمكن أن يخزن الطاقة الزائدة من منشآت الطاقة الشمسية وطاقة الرياح. لكن مطابقة قيمة الطاقة من الغاز الطبيعي التي تعادل شهرين والتي لدى أوروبا الآن في مخزونها يحتاج إلى بناء بطاريات بقيمة 40 تريليون دولار، الأمر الذي سيتطلب إنتاجه من جميع مصانع البطاريات في العالم مجتمعة حوالي 400 عام. وبذلك، لا علاقة للتلويح بالمزيد من المصانع والبطاريات الأفضل في المستقبل بمهمة ما يمكن بناؤه ‏‏الآن‏‏ للإبقاء على الاقتصادات والشركات والناس على قيد الحياة.‏ أو فكِّر في اندفاع أوروبا لزيادة واردات الغاز من مصادر غير روسية من خلال تركيب حوالي 20 محطة لاستيراد الغاز الطبيعي المسال، وهو أكبر عامل “خروج فردي من السجن” للقارة. وستكون العديد من هذه المحطات عاملة في القريب، وسيأتي الباقي في العام المقبل. وستكلف هذه المحطات ما مجموعه نحو 15 مليار دولار وستوفر ما يكفي من الوقود سنويًا لإنتاج كمية من الكهرباء تتطلب بناء توربينات رياح بقيمة 200 مليار دولار. وبطبيعة الحال، ستظل توربينات الرياح الافتراضية هذه بحاجة إلى دعم احتياطي من الغاز الطبيعي في حال جفاف الرياح -أي ما تبلغ قيمته تريليونات الدولارات من البطاريات.‏ هذه الحقائق هي السبب في أن ليز تروس، رئيسة الوزراء البريطانية الجديدة، أعلنت أن البلد سيسعى وراء الغاز الصخري والنفط. وقال الرافضون، بمن فيهم وزير الخزانة البريطاني، في وقت سابق، ‏‏إن التكسير الهيدروليكي لن يحل أزمة الطاقة حتى “لو رفعنا التعليق عن التكسير الهيدروليكي غدًا”، لأن “الأمر سيستغرق ما يصل إلى عقد من الزمان لاستخراج كميات كافية”. وهذا واضح وصحيح، لكنَّ الهدف هو صياغة مسار للطاقة يمنح الشركات ثقة كافية بشأن المستقبل لتوظف رأس المال ‏‏اليوم‏‏. وسوف تعتمد هذه الثقة على ما إذا كان المخططون يرون مستقبلاً يتمتع بوجود الطاقة الكافية والمرنة والرخيصة.‏ تقوم الصين الآن ببناء أكبر منشأة لتخزين الغاز الطبيعي في العالم، وتقوم بالمزيد من الحفر، وبزيادة استخدامها للفحم. ما الذي تعرفه الصين عن مستقبل الصناعات الأساسية كثيفة الاستهلاك للطاقة؟‏ ‏ إذا أراد صناع السياسة الأوروبيون استعادة التعقل في مجال الطاقة، فيتعين عليهم إعادة تنشيط إنتاج النفط والغاز في بحر الشمال وإعادة فتح حقل غرونينغن الضخم للغاز الطبيعي في هولندا، الذي يمتلك وحده القدرة على تعويض معظم العجز المحتمل على المدى القريب إذا شهدت أوروبا شتاء باردًا. وقد أوضحت الحكومة الهولندية أن الإغلاق الطوعي المخطط له منذ فترة طويلة ما يزال يمضي قدُماً.‏ تم العثور على المصادر الأساسية لإمدادات الهيدروكربونات المستقبلية لأوروبا في ثلاثة مجالات: منظمة “أوبك”، ومنصات المياه العميقة (العالمية والأميركية في الخارج)، وحقول الصخر الزيتي الأميركية. ولذلك، سوف تشمل استعادة التعقل في مجال الطاقة أيضا إبرام اتفاقيات شراء شاملة وطويلة الأجل مع موردي الوقود، ليس في الشرق الأوسط فحسب -وهو ما سارعت أوروبا بالفعل إلى القيام به- ولكن أيضًا في الولايات المتحدة. وبطبيعة الحال، سوف يتطلب صعود الولايات المتحدة إلى مورّد أكبر سياسات حكومية تُسهل التوسع الهيدروكربوني المحلي، لا أن تعارضه.‏ من الناحية النظرية، يمكن للكونغرس سن التشريعات اللازمة. وهو شيء لن يكلف دافعي الضرائب أموالاً، بل إنه سيولد، بدلاً من ذلك، أرباحًا للشركات الأميركية. كما أنه سيخفض في الوقت المناسب أسعار الطاقة للمستهلكين لأنه سيؤدي في نهاية المطاف إلى زيادة المعروض في الأسواق، مما يقلل دائمًا من الأسعار والتضخم. لكنّ السبيل الوحيد للقيام بذلك يتلخص في إعادة ضبط الهياكل التنظيمية التي تعوق التنمية الكبرى. وباختصار، سيتطلب ذلك تغييرًا في الموقف السياسي. ولكن، إذا كان للاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة أن يعملا معًا من أجل إعادة ضبط كبيرة لإمدادات الطاقة وإنتاجها، فسوف يرسل ذلك على وجه التحديد إشارات السوق اللازمة لإعادة التصنيع والانتعاش. ويجب أن تكون أي إعادة تعيين مكرسة في التشريعات وليس في الخطابات، حتى تكون ذات مصداقية كافية لإلهام التزامات رأس المال الخاص الرئيسية. ولن يتطلب أي من ذلك من الحكومات إلغاء طموحاتها في مجال تقنيات البطاريات والطاقة البديلة. للأسف، يضاعف المروجون للتفكير السحري حول انتقال الطاقة جهودهم في مجال العلاقات العامة والضغط. وقد لجأ بطل المرحلة الانتقالية، المدير التنفيذي لوكالة الطاقة الدولية، فاتح بيرول، مؤخرًا، إلى صفحات ‏‏صحيفة الـ”فاينانشال تايمز”‏‏ لتوضيح ما أسماه “ثلاث أساطير حول أزمة الطاقة العالمية”.‏ وكان بيرول مخطئاً في شيئين ومضللاً في الثالث. يدّعي بيرول أولاً أنه بعيداً عن أن تفوز في معركة الطاقة، فإن “موسكو تُلحق بنفسها ضررًا طويل الأجل من خلال تنفير الاتحاد الأوروبي” وإلحاق الضرر بالعلاقات طويلة الأمد ذات المنفعة المتبادلة. لكن الكثير من بقية العالم، من الصين والهند إلى العديد من الدول الأفريقية، لا يهتمون بشأن هذا “الضرر”، ويستمتعون بدلاً من ذلك بثمار شراء السلع الروسية بسعر مخفض. كما أن روسيا هي أيضا منتج رئيسي (غالبًا ما يكون من بين الثلاثة الأوائل) للعديد من المعادن المهمة الأخرى، من النحاس إلى النيكل إلى الألمنيوم.‏ ثم يكتب بيرول أنه من “السخف” الادعاء بأن “أزمة الطاقة العالمية اليوم هي أزمة طاقة نظيفة”، وأن القادة الذين يتحدث إليهم “يندمون على عدم التحرك بشكل أسرع لبناء محطات الطاقة الشمسية وطاقة الرياح”. مما لا شك فيه أن بعض الناس يصدقون هذا، لكنّ الشبكات والصناعات الكهربائية في أوروبا لا يمكن أن تعمل من دون الهيدروكربونات. والقضية بالنسبة لأوروبا هي من هو الذي يمكن أن يزودها بها، وبأي ثمن.‏ وأخيرًا، يقول بيرول إنه لا يرى أزمة الطاقة “نكسة كبيرة” لسياسة المناخ. حول هذا، على الأقل، لم يتقرر الأمر بعد. سيكون من شأن حتى شتاء معتدل أن يلحق الضرر بالنواة الصناعية في أوروبا. وتتحدث الحكومات الأوروبية عن المزيد من الإعانات الضخمة أو جهود التأميم حتى تتمكن من تثبيت أقدامها. ومن شأن هذه النتيجة أن تشكل نكسة كبيرة للقارة. والبديل؟ العودة إلى التعقل في مجال الطاقة، بالشراكة مع آلة الهيدروكربونات الأميركية الجبارة.‏ ‏*مارك ميلز‏‏ Mark P. Mills: زميل أقدم في ‏‏معهد مانهاتن‏‏، وشريك استراتيجي في صندوق مونتروز لين الاستثماري لتكنولوجيا الطاقة، ومؤلف كتاب “‏‏الثورة السحابية: كيف سيطلق تقارب التقنيات الجديدة العنان للطفرة الاقتصادية المقبلة”، و”عشرينيات صاخبة”‏‏. وهو مضيف برنامج “المتفائل الأخير” ‏‏The Last Optimist‏ *نشر هذا المقال تحت عنوان: Europe Is Losing the Energy War: Here’s how the continent can fight back اقرأ أيضا في ترجماتاضافة اعلان