أوطان بلا شعوب

 جسّد كاريكاتير الصديق ناصر الجعفري في "الغد" يوم أمس التراجيديا العربية في أكثر صورها إيلاما؛ عائدون، ذلك الدعاء الذي ارتبط لعقود طويلة بمأساة التشرد الفلسطيني، لم يعد اليوم حكرا عليهم. قوافل من الشعوب العربية تعيش نفس الكارثة؛ سوريون وعراقيون، وليس بعيدا عنهم اليمنيون والليبيون، يلوذون بالدعاء أملا بنهاية لغيبة طالت عن الأوطان.اضافة اعلان
مفارقة موجعة حملتها لوحة الجعفري؛ النكبة التي تحل ذكراها هذه الأيام، لم تعد حدثا فلسطينيا،   إنما حالة عربية، تكوي بنارها دولا وشعوبا. إنها بحق أمة منكوبة.
لسبعين عاما وأكثر، كافحت الشعوب العربية من أجل استعادة "الوطن السليب"، وفلسطين الحبيبة"،   لكن الحلم تحول إلى كابوس، وهاهي أوطان أخرى تضيع، وشعوب تكافح من أجل حق العودة.
قريبا ستكون بعض أوطان العرب بلا شعوب. عدد اللاجئين والمهجرين من السوريين، يفوق من صمدوا في بيوتهم. الضحايا من القتلى والجرحى والمفقودين، يزيد على سكان بعض الدول العربية.
العراقيون ليسوا بأفضل حال. ملايين في الخارج، ومثلهم في رحلة لا تنتهي للبحث عن الخلاص داخل العراق.
الإحصائيات تؤكد أن عدد اللبنانيين في المهجر أكبر بكثير منهم في الوطن الأم. حصة العرب في قوارب الموت أزيد من حصة الأفارقة.
على هذا المنوال، ماذا يصير بعد سنين؟ أوطان بلا شعوب. ظاهرة لم يسبق أن حصلت في التاريخ الحديث.
ولا تقف التداعيات عند هذا الحد؛ إذ قد يشهد القرن الحالي تشرد أمة بكاملها. أمة تذوب وسط أمم الأرض، ولا يعود لها كيان وهوية. شعوبها تتوزع على ملاجئ العالم الباردة، وتغيب ملامحها في المدن البعيدة، وبين الحضارات الصاعدة.
بالمعنى الحضاري، الأمة العربية غير موجودة على خريطة الأمم. لم يتبق غير المظهر يدل على وجودها. وهذا الأخير في طريقه إلى الإضمحلال. الهجرات القسرية والطوعية عن الأوطان في تتابع مستمر. الحروب الداخلية، والصراعات الطائفية تتكفل بتهجير وقتل الآلاف كل شهر. وانعدام فرص الحياة الكريمة، يجر ملايين الشباب العرب لأبواب السفارات الأجنبية. حلم كل شاب عربي اليوم أن يغادر وطنه في الحال. حتى في البلدان العربية الغنية، صارالالتحاق بالجماعات الإرهابية، يتقدم على طلبات الالتحاق بالجامعات.
في غضون أربع سنوات انتقل نحو ستة ملايين سوري للحياة خارج بلدهم، ومثلهم وربما أكثر من العراقيين في العقد الأخير. وفي أقل من عامين زاد عدد سكان بلد صغير مثل الأردن بنسبة 25 %. وتحول بلد هش مثل لبنان إلى خزان كبير للاجئين.
هذه الكتل الضخمة من البشر لا تفكر بغير الهجرة الأبدية إلى أوروبا وأميركا. سبعة آلاف مسيحي عراقي في الأردن يرفضون العودة إلى بلادهم مهما كان الحال، ويبدون تصميما عجيبا على الهجرة إلى أميركا وفرنسا.
ما من أحد؛ أقليات أو أكثريات يطيق العيش في الوطن الأم. شعوب بحالها تبحث عن أوطان جديدة.
ليس على الفلسطيني أن يشعر بعد اليوم بمأساته وحده؛ مأساة النكبة والتشرد، فملايين العرب صاروا بمثل حاله؛ شعوبا بلا أوطان، أو العكس لا فرق.