أولويات العمل الثقافي الأردني

في بلادنا مئات الهيئات الثقافية تتوزع بين الروابط والجمعيات والمنتديات والملتقيات وغيرها من المسميات. بعضها يعنى بالكتاب والمؤلف وآخر يهتم بالإبداع في مجال الفنون البصرية، في حين تنامت جمعيات إحياء التراث والفلكلور بشكل مطرد بعد أن أعيد إدخال الدبكات والرقصات الفلكلورية إلى احتفالاتنا الوطنية ومعظم المناسبات والأفراح.اضافة اعلان
عشرات المنتديات التي أنشئت في العقود الأخيرة تقيم أنشطة واحتفالات تتراوح بين توقيع الكتب والمؤلفات وتنظيم الأمسيات الشعرية والمحاضرات إضافة إلى إثبات وجودها من خلال المشاركة في الأعياد والاحتفالات. النوادي والجمعيات والروابط وحتى النقابات تعاني من تحديات كثيرة ليس أقلها نقص الموارد، فالعديد منها تشكو من ضعف الإقبال وروتينية الأنشطة وقلة اكتراث الأعضاء والجماهير بما تقوم به هذه الهيئات.
 في الأوساط الثقافية الأردنية وبالرغم من مرور تسعة أعوام على انطلاق برنامج المدن الثقافية الأردنية الذي شمل معظم مراكز محافظات المملكة، إلا أن الوضع ما يزال يتسم بحالة من الركود التي تبعث على الاستغراب. فلم  تسفر محاولات البرنامج شحذ همم الهيئات والفعاليات الثقافية وتدعيم أدوارها في نشر وتعميق الوعي المجتمعي إلى إحداث الأثر الذي تطمح له الهيئات ويحتاج لها المجتمع.
في أحاديثنا وبياناتنا السياسية ومؤتمراتنا نتحدث كثيرا عن أهمية بناء عقول وكسب مشاعر وقلوب الأجيال وتوجيههم نحو التعلق بالحياة والالتزام بقيم العمل والنجاح واحترام التنوع والاختلاف والابتعاد عن خطاب الكراهية وتعميق الحس بأهمية التنوع وتقبل الآخر والتعاون بين الجميع على تجاوز تحديات المناخ والطبيعة والحفاظ على الأرض ومواردها وخدمة قيم الأمن والسلم والتنمية المستدامة بمعناها الإنساني الأشمل. على الجانب الاخر نفتقر إلى أي أدوات فاعلة لتحقيق ذلك، فثقافتنا تتسم بالكثير من الجمود والتحجر، ومواقفنا نحو التيارات الثقافية القادمة من مراكز الإشعاع العالمي يشوبها الكثير من الرفض والحيادية والتشكيك.
في مجتمعاتنا اليوم يشعر الكثير من الشباب المتعلم بوجود حالة من التعارض بين القيم التقليدية التي حكمت وتحكم البنى الاجتماعية والقيم وأنماط الحياة الحداثية التي كانت مكونا من مكونات تعليمهم وإعدادهم المهني في المؤسسات والمجتمعات التي اندمجوا او عاشوا فيها. الوضع الناتج عن التباين بين الأنماط الثقافية الحاضرة في شخصيات العديد منا مسؤول عن انتشار النفاق الاجتماعي والمسايرة واللامبالاة وذوبان الهوية وكافة مظاهر الفصام الاجتماعي الذي أصبح ملمحا أساسيا من ملامح حياتنا العامة والخاصة.
 أزمات ثقافتنا التي ينبغي التصدي لها تتمثل في تخليصنا من المحنة التي نمر فيها مع ذواتنا والمتمثلة في تدني مستوى الصدق والمصارحة في المواقف والعلاقات وتباين مواقف الأفراد من المجتمع والقيم والسلطة، ما يسهم في إضاعة الكثير من الجهد والوقت وتخريج أجيال حائرة مرتبكة مترددة تائهة  غير قادرة على تحديد مواقفها  من أي شيء بدقة ووضوح.
لم تنجح الثقافة التي تعنى ببناء الشخصية وتوحيد طرق التفكير والشعور والتصرف في إيجاد مجتمع يتمتع بهوية بحيث يستطيع الفرد أن يتنبأ بطرق تصرف الأشخاص والتعرف على كيفية شعورهم وتفكيرهم في المواقف الجديدة. فباستثناء المناسبات الاجتماعية المرتبطة بالحياة والموت والتي تستمد موجهات إدارتها من الثقافة التقليدية يصعب اليوم ان تقدر كيف يمكن ان يتصرف الاشخاص في العمل او الاكاديميا او التجارة  فلا اخلاق واضحة توجه العمل واحتمالات التعرض للغش والخداع في كل المعاملات والعلاقات غير مستبعدة ولا يوجد ضمانات لتجاوزها.
 في القضايا التي تنظرها المحاكم وممارسات الطلبة والمدرسين والموظفين والأصدقاء قوائم لأنواع  الغش والخديعة التي يمكن أن يتعرض لها أحدنا نتيجة لغياب قيم وثقافة العمل والاعتماد المتبادل بيننا كأفراد وكجماعات.
من الملفت للنظر أن كثيرا من اعتراضات الأحزاب والعشائر على  النظام الانتخابي الجديد وآلية القائمة على مستوى الدوائر الانتخابية تستند إلى مخاوف الناس من أن يتعرضوا للغش والخديعة والخيانة ممن يشتركون معهم في نفس القائمة.
أولويات الثقافة وهيئاتها اليوم ينبغي أن تنصبّ على قضايا الهوية الثقافية ومشكلات تدهور منظومة القيم وانتشار ثقافة الغش وزيادة منسوب الاستفزاز والعنف وتفشي الحس باللامبالاة ومهادنة الفساد والتعدي على الحقوق والكرامة وبناء قيم الاحتفاء بالحياة وإطلاق الطاقات الكامنة للجميع وتيسير فرص نشر الإبداع وانعكاسه على الحياة والبيئة والانتاج.
من غير المعقول أن نستمر في العيش في قوالب غير قادرة على استيعاب  النمو والتطور المادي والحضاري، ومن المناسب أن نعيش في عالم نحمل لساكنيه مشاعر العداوة والكراهية والتشفي بحجة أنهم يختلفون عنا مع أاننا نورد عشرات القصص عن قدرة ثقافتنا على استيعاب الآخر.
الثقافة مرشحة للقيام  بأدوار مهمة وحاسمة في معالجة كل التحديات المتعلقة بهويتنا ومستويات الإنجاز ومواقفنا من الآخر إضافة إلى تحسين نوعية حياتنا وتحقيق حالة من التصالح مع تاريخنا ووجودنا وعالمنا.