أولية العقل والإسلام المتخيل

 

لا يمكن إحراز تقدم في مجال المعرفة باللجوء إلى الطرق غير العقلية وحدها

لدينا أزمة كبرى ناشئة عن فهم الآخر وبخاصة الغرب للإسلام، وأزمة أخرى لا تقل عن خطورتها ناشئة عن فهم "إسلامي" للإسلام، وتخلط بين الإسلام وبين فهمها، أو كما يقول تعالى "ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله". نحتاج لمجهود علمي واجتماعي كبير لنميز بين ما هو من عند الله وما ليس من عند الله، بمعنى انه ليس أمرا إلهيا أنزله على أنبيائه، وأحسب أنه يفرض علينا فهما وتطبيقات على أنها من الإسلام وهي ليست سوى اختراعات للهيمنة والتسلط السياسي والاجتماعي والفئوي أيضا، واليوم في مرحلة المعرفة واقتصاداتها ومجتمعاتها تشكل هذه القضية أساسا كبيرا ومهما لننظم معرفتنا ومواردنا وبرامج النهضة والتنمية على أساسها، المسألة ليست ترفيها، على سبيل المثال ماذا يجب أن تفعل كليات الشريعة والدراسات الإسلامية اليوم في مرحلة اقتصاد المعرفة؟ وما الذي يجب أن تقدمه للطلاب والباحثين والمجتمعات والمتدينين وما الذي لم يعد يحتاج إلى علماء شريعة ومفتين وكليات شريعة؟

اضافة اعلان

يطرح عادل ضاهر في كتابه "أولية العقل" مجموعة من الأسئلة وإجاباتها الشائعة، ولكنه يقدم إجابة أخرى جريئة وربما صادمة حتى لغير المتدينين والعلمانيين، ومن القضايا التي يردها ضاهر في كتابه: النقل ذو أسبقية على العقل، والإسلام دين ودولة، ولا يمكن للإنسان أن يتدبر شؤون دنياه من دون توجيه إلهي، ولا اجتهاد في مورد النص، ولا تعارض بين قيام دولة إسلامية والديمقراطية في بعض جوانبها.

ويشكك ضاهر في مشروعية إسناد الأطروحة الخامسة إلى الإسلاميين، وإن كان من بينهم من يؤيد هذه الأطروحة ظاهريا، وبخاصة في إصرارهم على أن نظام الشورى هو المعادل الإسلامي للنظام الديمقراطي، ولكن مع افتراض أنهم يتبنون فعلا هذه الأطروحة فإنها برأيه ليست صحيحة ولا يمكن تطبيقها.

ويرد على هذه الرؤية التي يقدمها على أنها العودة إلى النصوص لتوجيه شؤون الحياة، وأن هذا هو المنهج الصحيح الذي يعصم من الخطأ، وأن الإنسان لا يمكن أن يكون في الوضع المعرفي الصحيح إزاء ما ينبغي عمله في المجال العام من دون المرجعية العليا المتمثلة بالنص المقدس، ولا يجوز الاجتهاد إلا في الحالات التي لا تكون مشمولة بنص صريح.

يجادل ضاهر أنه لا مجال لديمقراطية أساسا إلا إذا قامت على العقل، ومن ثم فليس هناك نظام إسلامي ديمقراطي حتى ولو اقتنع القائمون عليه بالديمقراطية ويريدون تطبيقها بالفعل. ويعرض النتائج التي أراد الوصول إليها وهي: لا يجوز النظر إلى علاقة الإسلام بالسياسة أو الدولة على أنها شيء في صلب ماهيته العقدية، ومن المتناقض أن نفترض أن الإنسان عاجز عن تدبر شؤون دنياه من دون توجيه إلهي في الوقت الذي نفترض عدم عجزه عن معرفة الله، ولا يجوز تعطيل الدور الاجتهادي للعقل بأي نص ديني، وأما الكلام على دولة دينية ديمقراطية فليس سوى إرداف خلفي.

ويلخص ضاهر أطروحته في أن المصدر غير العقلي لأي اعتقاد لا يتجاوز كونه مجرد اعتقاد، ولا يرقى إلى مستوى المعرفة من دون سند عقلي، فإذا كان المصدر غير العقلي له سلطة ما فإن هذه السلطة لا يمكن أن تكون نهائية، إذ لا يمكننا أن نستبعد قبليا حصول تعارض بينها وبين سلطة أخرى فتنشأ الحاجة إلى اللجوء إلى اعتبارات مستقلة للحسم، وحتى في غياب تعارض كهذا فإنه يشترط لأي سلطة نلجأ إليها أن تكون سلطة موثوقة وذات خبرة وعلم بالأمور التي نلجأ إليها بخصوصها، وشرط كهذا لا يتعلق بنظرتنا إلى هذه السلطة ومدى احترامنا لها وثقة فيها مبنية على اعتبارات مستقلة عن هذه السلطة، وما عساها تكون هذه الاعتبارات إن لم تكن اعتبارات عقلية؟.

 ويبقى العقل وحده هو الدليل لمن لديه ملكة إدراكية، ولا يمكن القبول بكل ادعاء بالحيازة على ملكة خاصة في الإدراك على علاته لأنه ليس كل من يدعي أن لديه ملكة كهذه يحوز عليها فعلا.

 ولا يمكن إحراز تقدم في مجال المعرفة باللجوء إلى الطرق غير العقلية وحدها فهي طرق غير مرنة ولا تسمح بالاعتراف بإمكان تعرضها للخطأ وإعادة النظر في النتائج التي توصلنا إليها.

 واللجوء إلى الطرق النقلية يختلف جذريا عن الطرق غير العقلية، فاحتمال الوقوع في الخطأ سمة جوهرية لأن هذا يعني اعتبار النتائج التي توصلنا إليها غير نهائية وقابلة للمراجعة والشك.

ويعالج ضاهر أطروحات الحركات الإسلامية الأربع التي عرضتها في مقدمة المقال على أساس أنها مخالفة للعقل، ولا أهمية برأيه لوجود أو عدم وجود اعتبارات غير عقلية مؤيدة لهذه الأطروحات، فالاعتبارات العقلية مبطلة لأي اعتبار سواها سواء كانت مستمدة من نصوص دينية معينة أو من أي مصدر آخر، فإذا كانت هذه الأطروحات مخالفة للعقل فليس أمامنا سوى رفضها حتى لو كانت بعض النصوص توحي بغير ذلك.

 ومنذ أطلق حسن البنا شعار "الإسلام دين ودولة" تحول هذا الشعار من كونه خاصا بحركة الإخوان إلى شعار مشترك بين الحركات الإسلامية، بل إن الربط بين الإسلام والسياسة يقول به أيضا كتاب لا تربطهم بالحركة الإسلامية رابطة مثل أدونيس فهو يرى أن السياسة في الإسلام بعد جوهري من أبعاد الدين.

وهكذا فإننا أمام سؤالين كبيرين نحتاج لنشغل انفسنا بهما عن العلاقة بين العقل والاعتقاد والعلاقة بين الاعتقاد والسياسة.

والمفكرون الإسلاميون مثل حسن البنا والترابي والغنوشي والقرضاوي يعتقدون أن العلاقة بين الإسلام من جهة والدولة والسياسة والاقتصاد والاجتماع من جهة أخرى هي أكثر من علاقة تاريخية، بل هي علاقة منطقية مفهومة.

 وهنا يبذل ضاهر جهدا كبيرا في توضيح أن العلاقة بين الإسلام والسياسة لا يمكن أن تكون أكثر من علاقة واقعية تاريخية، ومن غير المعقول فلسفيا ومنطقيا أن تكون هذه العلاقة أكثر من علاقة جائزة.

 فالشروط الموضوعية التاريخية التي نشأ فيها الإسلام اقتضت إقامة دولة لتأسيس وترسيخ دعائم الإسلام، ولولا هذه الشروط الموضوعية التي أحاطت بنشأة الإسلام لما اتجه وجهة سياسية ولما كان ثمة ضرورة لإقامة دولة إسلامية، وبما أن هذه الأغراض استنفدت منذ فترة طويلة فقد انتفت الحاجة إذن إلى إقامة دولة إسلامية.

ويعتقد الإسلاميون أن الإنسان قادر على معرفة الله عن طريق العقل ولكنه غير قادر من دون توجيه إلهي على تدبر شؤون دنياه ومعرفة كيفية تنظيم حياته السياسية، ويرى المؤلف في ذلك تناقضا، فالله حين خلق العقل الإنساني وضع على عاتقه مسؤولية الكشف عن الوقائع بذاته وتقرير قيمه وغاياته ووسائل تحقيقها بحرية مميزا له بذلك عن كل المخلوقات، فإذا كان السبب من خلق العقل الإنساني هو جعل الإنسان صاحب المسؤولية الأخيرة في كل الشؤون التي تخص تحصيل المعرفة النظرية والعملية فلا يمكن من المنظور الإلهي نفسه أن يوجد لاحقا سبب مبطل للسبب الأخير، بمعنى أنه يسوغ التراجع عن ترك هذه المسؤولية للإنسان وحده، ومعنى أن نجعل النص مثلا مصدرا أخيرا لتقرير غاياتنا الدنيوية هو أن نعطل عمل العقل وأن نجرد الإنسان من المسؤولية التي نيطت به، وهذا يتعارض مع السبب الذي من أجله خلق العقل.

[email protected]