أيام "المكاتيب"

الأصدقاء الآن غيرهم زمان، الأصدقاء الآن لا يقرعون الباب، ولا تشمّ روائحهم وتدافعهم خلف الشبّاك حين يقتربون، ولا تسمع جدلهم على السطح حين يسهرون، ولا عناقات في صباحات الأعياد، الأصدقاء الآن مجموعة أزرار مضاءة على شاشة الكمبيوتر أو الهاتف، وبامكانك أن تقتل صديقاً بـ"كبسة زر" صغيرة بإصبعك الصغيرة، من دون أن تسقط على الأرض بقعة دم، وفي لحظة واحدة "تضيف" مكانه صديقين أصغر عمراً إن شئت!اضافة اعلان
وفي الوقت الذي تكتظ حياتنا الآن بوسائل "التواصل الاجتماعي"، مثل "فيسبوك" و"تويتر" و"تانغو" و"بوتيم" و"واتس اب" وحزمة "الإيميلات" و"الرسائل القصيرة"، .. لكنَّ "الوصل" الذي تغنَّى به الشاعر القديم لم يعد ممكناً؛ وصارت العلاقات الودودة مثل مجموعة من الورد الصناعي، بل صار لدى كل واحدٍ قائمة بضحاياه، الذين قتلهم بمتعةٍ فائقة.. من دون شعورٍ بالذنب!
وفي الوقت الذي تتناسخ أو تتوالد مواقع "التواصل" بنشاطٍ غريب، تتنامى "القطيعة" بمثابرةٍ أنشط؛ حيث ماتت الأفكار الكلاسيكية مثل "فكرة الأهل" و"فكرة العائلة" و"الأقارب"، وحلّ مكانهم جميعاً الأصدقاء المفترضون الذين ربما لم نرهم قبل ذلك مرَّةً واحدة،.. بل وحتى لن نراهم أبداً!
اختفت من حياتنا "المكاتيب"، تلك التي كنا نكتبها دامعين، ونضعها بين يدي موظف البريد برجاء، ونبقى ننتظر لهفةً تماثل لهفتنا، حتى يصل البريد فنحمل حصّتنا من الأشواق، ونُقلّب "الرسالة" بيدٍ راجفةٍ كمن يخاف على طائرٍ مريض!
وصار للعلاقات الاجتماعية شكلها الجديد، والفريد أيضاً؛ ففي الوقت الذي لديك خمسة آلاف صديق، ومثلهم على موقع آخر، وكذا على موقع ثالث أو في بطن الهاتف، تجدك تجلس وحيداً تقضم أظافرك وتخرج في نزهتك وحيداً ثم تشرب الشاي وحدك وتنام كأنك من سلالةٍ انقطعت!
في الحقيقة أن "مواقع التواصل" قامت بالأساس على فكرة هدم العلاقات الاجتماعية، وقتل الأهل والأقارب، والتخلص من الأصدقاء التقليديين، وتجيير الوقت الفائض عن اختفاء كل هؤلاء، لصالح علاقات افتراضية جافّة، ومحشورة داخل أسلاك كهرباء نحيلة!
لكنّه بالمنطق لا يمكن فهم الصداقات التي بدون ضحكات مجلجلة، ومشي طويل على أطراف الشوارع، ولا يمكن فهم الحياة بدون أقارب وأحفادٍ يعيثون في البيت فوضى وضجيجاً، ولا يمكن تخيّل أن تنقطع علاقاتك وتصير بلا أقارب حين تنقطع الكهرباء أو شبكة الهاتف!
فهؤلاء الأصدقاء الافتراضيون هم مجرد خيالاتك أو فكرتك عن الصداقة، لكنهم لا يمشون على الأرض، ولا يتركون دفئاً على المقاعد، ولم تجرّب أصواتهم في الحزن أو في الغناء، ومع ذلك يصادرون من وقتك أضعاف ما كان يحتاجه الأصدقاء الطيّبون لشرب كأس شاي أو تبادل محبّةٍ قصيرة!
أحاول أن أتخيل أسبوعاً بدون كهرباء، وبدون شبكة هواتف، يضطر فيه الناس الى تفقّد أقاربهم، وعائلاتهم، والبحث عن عناوين البيوت، وطرق الأبواب بلا مواعيد، والبحث عن المحبّة القديمة؛ تلك التي كان لها مذاق حميم لم يعد يعرفه أحد.
حين كان "التواصل الاجتماعي" يمشي بروحٍ مقدامةٍ على ساقين نشيطتين، ويحمل كيس فاكهةٍ، .. ولم يكن بحاجة لجهاز وشاحن و"كلمة سر" طويلة. ولم يكن "واتساب" فرداً من العائلة ترسله ليقول لابنتك في الغرفة المجاورة: صباح الخير!