أين ذلك الإحساس؟!

ما نفتقده مع الحكومات الأخيرة عموماً، ومع هذه الحكومة خصوصاً، هو ذلك الإحساس الذي يتأسس على تواصل يومي ودقيق مع المواطنين وهمومهم، وتواكبه رسالة إعلامية ناجحة؛ بل على النقيض من ذلك، فإنّ الرسالة التي تصل إلى المواطنين، بقصد أو بغير قصد، هي تلك التي قالها رئيس اتحاد مزارعي وادي الأردن عدنان خدّام، بصورة عفوية: "روحوا انفلقوا"!اضافة اعلان
المفارقة أنّ الرئيس د. عبدالله النسور، الذي دخل عالم الوزارات والحكومات منذ قرابة 30 عاماً، عرف حكومات عديدة، (إذ دخل الحكومة للمرّة الأولى في زمن أحمد عبيدات)، ويستطيع تمييز أساليب القيادة بين رئيس يدير ظهره للشارع تماماً، وينفصل عنه شعورياً، وآخر يتابع التفاصيل الدقيقة التي تؤثّر على حياة الناس اليومية، وفي مقدمتها مراقبة أسعار السلع الأساسية والخضراوات والفواكه، كما كان يفعل مضر بدران! فمثل هذه القضايا الصغيرة الدقيقة التي ربما تُعدّ تافهة لدى أغلب السادة الوزراء، مهمة وأساسية بالنسبة لشريحة واسعة من المواطنين!
هذه المقارنات تفرضها متابعتنا لأخبار اعتصام مزارعي الأغوار واحتجاجاتهم، التي تمّ قمعها من قبل الدرك؛ وكذلك الحال بشأن "البعوضة المفترسة" التي تعبث بأجساد المواطنين والأطفال في الأغوار، وتسبب آلاماً شديدة؛ لكنّنا في الحالتين لا نجد ردود فعل حكومية على مستوى من الأهمية والاهتمام. فلا وزير ولا مسؤولا كبيرا يشرح للرأي العام ما حدث، وينوّرنا بهذه الأمور ويتابع، حتى لو "ضحكاً على اللحى" فقط أمام الإعلام، أو يتعرّض (من باب المجاملة) للسعة هذه البعوضة المفترسة، ليؤكّد تعاطفه مع الأطفال والناس البسطاء!
ربما تجد الحكومة نفسها عالقة ومعلّقة بأزمات مالية وخيارات سياسية محدودة، ولا تستطيع فعل الكثير لإرضاء الرأي العام وتخفيف حالة الاحتقان في البلاد. لكن هناك مساحة واسعة في القضايا الجزئية واليومية والإدارية يمكن أن تتم من خلالها صناعة الفارق، حتى مع الإمكانات القليلة، لكن بشرط وجود الرؤية الناضجة والإدارة الكفؤة، وقبل هذا وذاك الحسّ السياسي العميق الذي يمكّن صاحب القرار من فهم أوجاع الشارع والمواطنين وهواجسهم وآمالهم، ويرسل لهم رسالة دعم وتشجيع ومشاركة أو مواساة في أضعف الحالات!
النموذج المعاكس تماماً لهذه الحالة الحكومية الراهنة يتمثّل في وزير التربية والتعليم. إذ أصبح الجميع يتغزّل بهذا الرجل، من أقصى الموالاة إلى المعارضة، وأشبعه الإعلام النقدي، قبل الحكومي، مدحاً، بالرغم من الحملة النيابية والشعبية ضده، وبالرغم من أنّه اتخذ قرارات في الثانوية العامة ألّبت عليه مافيات منتفعة من حالة الفوضى السابقة. فهو استطاع، خلال فترة قصيرة، وبجهود ذاتية وحكمة إدارية وشجاعة ونزاهة، أن يخلق فارقاً ملموساً لدى المواطنين، وأن يعيد درجة من الثقة المتآكلة بإحدى أهم مؤشرات قوة الدولة وضعفها، أي امتحان الثانوية العامة!
بالأمس، وجه الوزير نفسه رسالة أخرى قوية، عبر إنذاره أربعين مدرسة خاصة لمخالفتها شروط الترخيص، بعدما كانت هذه المدارس بمثابة دولة قائمة بذاتها تعلو على وزارة التربية نفسها!
صناعة الفرق في المناخ السياسي والتفاصيل المهمة المرتبطة بحياة الناس، أمر ممكن، بل ضروري اليوم، في ظل شرخ الثقة الواسع. لكن ذلك يتطلب أولاً وقبل كل شيء، امتلاك الإحساس بالمواطنين وهمومهم، والخروج من حالة البلادة الراهنة!
اشتباك الحكومة مع الأزمات الرئيسة (مثل معان وعجلون)، وانخراطها في تحسين ظروف حياة الناس والتفاعل معهم في القضايا اليومية، أهمّ بكثير، في ظني، في وقت الرئيس وأولوياته وطاقم الحكومة، من حضور حفل توقيع كتاب لا يتوقف مستقبل الأردن عليه!