أين نحن من هزيمة التطرف..؟!

ليست الأرقام التي ظهرت مؤخراً عن عدد الأردنيين المنخرطين مع التنظيمات الإرهابية في سورية والعراق جديدة. وهي مجرد عرَض فقط لكمّ ونوع التطرف الذي لا ينحصر في مظهر الخروج لحمل السلاح مع الإرهابيين. الأصل في التطرف هو سيادة العقل السكوني المنغلق على حساب منظومات الفكر النقدية والمرنة والابتكارية. ولا يصعب تعقب العلاقة الطبيعية بين نوعية العقل الاجتماعي الرجعي بهذه الكيفيات، وبين تجلياته التي تبدأ بالتخلف على المستوى القومي، ولا تنتهي بالعدوانية وإقصاء الآخر والعنف.اضافة اعلان
كان التطور الإيجابي الأوضح في المعركة ضد التطرف محلياً شيئاً تشكل بآلياته الخاصة: النفور والاشمئزاز من الشكل الهمجي الذي عبر به التطرف عن نفسه في سياق الإرهاب المباشر في الميادين السورية والعراقية. وفيما عدا ذلك، لا يتم الشعور بتطورات مؤثرة في اتجاه الهدف الاستراتيجي الذي ينبغي أن يتمثل في تطوير العقل الاجتماعي وتغيير الثقافة الوطنية كلها، بعيداً عن الجمود وفي اتجاه التعددية والحوار والانفتاح.
كان الدواعش وأشباههم مجرد مرآة وُضعت فجأة في بيت بلا مرايا، لترى فيها مجتمعاتنا شيئاً من نفسها. لم يأتِ كل هؤلاء الأشخاص الوحشيين من فراغ، وإنما أهدت إليهم أزمات المنطقة مساحات ليعرضوا أنفسهم فيها فحسب. وكان هذا التجلي الفظيع لثقافة التطرف رأس الجبل فقط من تكوين عميق أنتجته السياسات السيئة وما صنعته من تحولات اجتماعية سلبية خرّبت المنطقة وأزّمت شعوبها.
في محاولة الخروج من المأزق، من الطبيعي أن تكون الفكرة الأولى هي مواجهة التجلي المباشر العنيف للتطرف بالحل الأمني. وينخرط الكثير من العالم الآن في الحرب المباشرة ضد "داعش" الفيزيائي، باعتباره أفظع تعبير عن التطرف. لكن كل المتابعين ينبهون إلى أن هزيمة "داعش" بمعنى إسقاط "الخلافة" بتجريدها من الأرض، لا يعدو كونه طوراً صغيراً جداً فقط في سياق المواجهة مع الأيديولوجيا الخطيرة التي تفرخ الإرهابيين في كل وقت.
في المعركة الأطول، بدأنا هنا من مكان مهم: تطوير المناهج المدرسية والعملية التربوية بهدف تغيير العقل الذي تنتجه. لكن هذا المسعى انحرف عن سكته عندما اختزل في كيفية عرض الدين وتعليمه. وفي الحقيقة، تتكون العملية التعليمية من أكثر من هذا بكثير. إنها تتعلق بمحتوى كافة المساقات، من الرياضات والفيزياء إلى التاريخ والاجتماع وفلسفات العلوم والأخلاق وتفسيرات العالم. وهي تتعلق بنوعية المعلم وطريقة عرضه لمادته. وتتعلق بالتخلص من طرائق الحفظ والاستظهار لصالح تكوين أدوات التفكيك والتركيب والاستنطاق وتوليد الأفكار. وهي تتعلق بتخلص سلطة القرار من فكرة الخوف من العقل القادر على التساؤل والشك والرغبة في المشاركة والقدرة عليها. 
بالإضافة إلى أهمية التعليم في التخلص من العقل السكوني، هناك مسألة تخليص الناس، والشباب بشكل خاص، من الإحباط وعدم الرضى الناجمين عن انسداد الآفاق الاقتصادية. ويصنف كل المراقبين هذه الأعراض في قلب أسباب التطرف. وحتى الآن، ما تزال الأسئلة مطروحة عن مشروعنا الوطني في هذا الاتجاه، حيث لم يعرض أحد بعد خطة واضحة البدايات والوسط والنهايات، والتي تعد المواطنين بانفراج محسوب وقابل للتحقق. وكان كل ما اختبرناه هو المزيد من الإجراءات الضاغطة التي تعزز الشعور بانعدام الأمن الاقتصادي وفقدان اليقين والبحث عن حلول فردية في شكل الانتحار والتطرف.
وهناك أيضاً مسألة إشكالية مهمة تتعلق بالحريات، حيث يمكن تسويق الكثير من الإجراءات التي تختزل مساحات الحرية باعتبارها جزءاً من مكافحة التطرف والإرهاب. والميزان دقيق جداً هنا، حيث يمكن أن يفاقم الضغط غير المحسوب على الحريات مشاعر السخط المؤدية إلى التطرف. ويتطلب التعامل مع مطلب الحرية جدية في فتح مساحات الانخراط في النشاط السياسي الواعي والمجدي، واستهداف الفكرة التي رسختها عقود في الذهن الجمعي، عن أن ممارسة السياسة نشاط محظور يوقع صاحبه حتماً في المتاعب مع السلطة. ولا يلمس المراقب اتجاهاً إلى تخليق الشراكة الضرورية وحسنة النية بين الناس وأصحاب القرار، بحيث تظل العلاقة تنافسية وليست تكاملية، بما يعزز اتجاهات التمرد والتطرف.
وهناك مسألة ترسيخ حكم القانون وإلغاء القوانين والمظاهر الجهوية والفئوية، في اتجاه المساواة الحقيقية وإلغاء أي مظاهر للطبقية في المواطنة. وكل هذه مسائل حاسمة في اتجاه تغيير الثقافة نحو الإشراق وبعيداً عن الانغلاق، وهو جهد يحتاج جرأة من النوع الذي لم نشاهد مقدماته بعد.