أين نقف؟!

من يتابع السجالات والجدالات واختلاف الأولويات في مواقع التواصل الاجتماعي، وفي الإعلام والمنتديات، سيكتشف بسهولة أنّ الأمور لدينا أشبه بالجملة المصرية المشهورة "سمك، لبن، تمر هندي"! إذ ندور في الحلقة المفرغة ذاتها، ونكرّر ونجتر الموضوعات والخلافات نفسها، ولا نملك جدول أعمال وطني يحدّد لنا الأولويات الحقيقية، ثم يبرمج التحديّات، ومصادر التهديد، والخيارات العقلانية-الواقعية في التعامل معها!اضافة اعلان
الأمور مختلطة على كثير من الناس! الفرصة تتحول إلى تحدٍّ، والتحديّ يصبح تهديداً، والكلمة الوطنية تغدو مصدراً للاحتراب والاستقطاب والصراع الداخلي، كما الإصلاح السياسي اسماً حركياً لمحاصصة على القاعدة الإقليمية-الطائفية ذاتها، والهوية دوراناً حول الذات وتقوقعاً ونكوصاً، بدلاً من أن تكون تطوّراً وانفتاحاً واعترافاً بالآخرين!
نحن لا نعرف أين نقف، فعلاً! بل لا نتفق على الأساسيات في تقييم أوضاعنا وأحوالنا؛ هل نحن اليوم أفضل من الأمس، أم العكس صحيح؟! هل نسير إلى أمام أم إلى وراء؟ هل الأزمة سياسية أم اقتصادية؟ وهل الأولويات هي الحفاظ على الوضع الراهن والاستقرار الهشّ، أم أنّ المطلوب هو النظر إلى الأمام، والتطلّع إلى الأفضل؟ لم نحدّد ما هو دور الدولة وما هو دور المواطن في المعادلة الاقتصادية؛ وفيما إذا كنّا نريد دولة مواطنة وقانون ومؤسسات، أم دولة جاهات وعطوات ومحاصصة!
ما نزال ننظر من زوايا حادّة للملفات كافةّ والأوضاع بصورة عامة؛ إمّا أبيض أو أسود، بينما الرؤية النسبية الموضوعية الواقعية، التي تستطيع تعريف نقاط القوة والضعف، والمسارات الصحيحة من الخاطئة، هي الوحيدة التي تكفل لنا ترشيد السجالات والحوارات غير المجدية الحالية، والتي تستنزف أوقات الأردنيين وأعصابهم وجهودهم!
في ظنّي أنّ ذلك الغموض وغياب الرؤية التوافقية الوطنية، وانعدام الرؤية التي تتأسس على فلسفة أو على الأقل جدول أعمال وطني واضح، هي التحدّي الأخطر الذي يواجه الأردنيين.
كثير من الأردنيين لا ينظرون، مثلاً، إلى حسنة عظيمة، وهي أنّنا نجونا من بحور الدماء والتشريد والانهيار والقتال الداخلي التي وقعت فيها الدول المحيطة، وبأنّ لدينا نظام حكم ليس دموياً، إن لم يكن يعبّر عن الطموح الديمقراطي الإصلاحي لكثير منّا.
على الطرف المقابل، فإنّ النخبة السياسية الرسمية لا تريد أن تنظر إلى الأخطار الكبيرة التي بدأت تبرز من البيت الداخلي، سواء غرفة في الوحدة الوطنية وصعود الهويّات الفرعية، أم في غرفة التعليم، أو غرفة القانون وهيبة الدولة، أو في الغرف الأخرى المختلفة. إذ لا تنظر هذه النخبة إلاّ إلى الخارج وما يدور حولنا، لتحمد الله على نعمة الأمن الداخلي، وتحاول حماية البيت من الخارج وتأمين احتياجات الأسرة؛ من دون أن تدرك أنّ "الشروخ" ازدادت كثيراًَ، وأن الأبناء يتنمرون على بعضهم، ويتمرّدون على المعادلة الداخلية!
دعونا نحدّد برنامج العمل الوطني لنا جميعاً، ونميّز بين الأولويات والتحديات والتهديدات، ونضع الخطوط العامة لما نتفق عليه، وما نختلف فيه؛ نفرّق بين الغايات والوسائل، بين ما هو ممكن وما هو مستحيل، بين ما هو بأيدينا وما هو خارج إرادتنا. دعونا نبدأ من "هنا"، لنحدّد معاً أين نقف، وما هي معالم الطريق أمامنا؛ دعونا نرى العالم وأقدامنا على الأرض، بدلاً من الصور المقلوبة الراهنة!
دعونا نؤسّس لمبادرات مجتمعية وأفكارٍ خلاّقة في المجالات المختلفة والمتعددة؛ في التعليم والعمل التطوعي والثقافة والمجال الإنساني، والتنمية الاجتماعية والاقتصادية، ما يقوّي المجتمع المدني ويعزز حضوره ويؤطر الشباب ويجمعهم ضمن مبادرات نافعة مفيدة، تحدّ من الفجوات الطبقية وصدامات الهوية الفارغة والفراغ الروحي والفكري القاتل.
ذلك ليس هروباً من السياسة، أو من العمل الحزبي الراكد، بل هو في صميم ذلك ومادته الاجتماعية الحيّة المتحرّكة، بدلاً من نقاشات عقيمة ضارّة، وصراعات أيديولوجية تجاوزتها حركة التاريخ والعالم. ذلك هو ما يمكن أن يؤسس لمفاهيم صحيحة حول العمل العام والسياسي!.

 

m_rumman@