أيُّ عطّار سيُصلِح..؟!

شهد البلد في الفترة الأخيرة مجموعة من الأخبار التي أقل ما يمكن أن يُقال عنها إنها محبطة. وإذا أضاف إليها الأفراد خبراتهم الفردية، فإنّ استحضار التفاؤل يصبح مثل التقاط خاتَم سقط في محيط.اضافة اعلان
على سبيل المثال وليس الحصر، لم يتوقف المتشددون والإرهابيون عند اعتناق وترويج إيديولوجيتهم الإقصائية المدمِّرة، وإنما ضربوا مرة أخرى في مدينة السلط مؤخراً. وذهبت ضحية لأعمالهم كوكبة من أبنائنا وأحبائنا من رجال الأمن والمدنيين، بالإضافة إلى ترويع الناس وتعميق القلق من هذه العناصر الكامنة الغادرة كثيرة العدد، والتي يمكن أن تلدغ في أي لحظة ومكان.
وفي مكان آخر، مارس مجموعة من الطلبة الشغب والعنف في أول يوم دراسي، وحطموا مدرستهم بطريقة تثير الاشمئزاز والأسف. وعلى الأثر، نشر البعض مقطع فيديو لليوم الأول في المدرسة في ألمانيا، يُظهر ماذا يعني أول أيام الدراسة هناك، وكيف يُحتفى به وتُلبس فيه ملابس العيد ويكون الطالب هو نجم اليوم في البيت والمدرسة، حتى يصبح حدثاً مشرقاً لا تُمحى من الذاكرة. وتذكر بَعضنا كيف تُركوا وحيدين في يومهم الأول في المدرسة واجتروا مرارة الذكرى، وتحسروا. وربما ألمح الفيديو إلى شيء من الأسباب.
وفي مكان آخر، في الفترة نفسها، هاجم "أساتذة وموظفون" -أساتذة!- مكتب رئيس جامعتهم وهددوه وأهانوه وأجبروه على المغادرة. ومن عظائم المفارقات أنهم هتفوا بعد ذلك للملك تعبيراً عن الولاء للقيادة والوطن، في محاولة عجيبة لتصنيف عملهم في فئة العمل الوطني البطولي!
وفي الفترة نفسها، ثار الحديث مرة أخرى عن قانون الإصلاح الضريبي. وبدا أن أصحاب الأمر عالقون بين الوفاء بالتزاماتهم للمواطنين المُثقلين، وبين مطالب الجهات الخارجية وصندوق النقد الدولي. وكان هذا القانون بالتحديد هو الذي أخرج الأردنيين إلى الشوارع بعد أن طفح الكيل من شدة الضيق. وبدا من النقاشات عمق المأزق في اتخاذ القرار الوطني حول الكثير من الأشياء، ومرارة الخيارات بطريقة يائسة.
وفي سياق منفصل/ متصل، أخبرتني صديقةٌ صاحبة دار نشر، أن ألمانيا ترجمت رواية سويدية من الأكثر مبيعاً، وطبعت منها خمسة ملايين نسخة (للناطقين بالألمانية فقط بطبيعة الحال)، في حين طبعت الترجمة العربية للكتاب نفسه ألف نسخة بائسة لأكثر من مليار عربي هم الجمهور المتوقع، مع القلق المبرَّر من عدم بيع الألف كتاب.
المشكلة في هذه الأحداث أنها ليست نتاجاً لانحرافات فردية، وإنما هي أعمال واتجاهات جماعية. ويتساءل المرء عن شيوع التحرك بغريزة القطيع إلى هذا الحد وبهذا التكرار. لم يناقش المعظم فكرة الطالب الذي اقترح تخريب المدرسة. والكثيرون استجابوا لدعوة مبتكر فكرة مهاجمة رئيس الجامعة وطرده. ووجد الإرهابيون مجاميع من الذين يقبلون نسف بيوتهم وأوطانهم على أنفسهم ومواطنيهم، ولم يفكروا في الجدوى حقاً. ولا يتساءل العرب من المحيط إلى الخليج لماذا لا يستهلكون كلهم مجرد ألف كتاب، ويستمرئون الجهل وما معه من هوان.
حادثة المدرسة والجامعة، وعنف الجامعات المتكرر، والمشاجرات الجماعية، والخروج على كل ذوق في مواكب الأعراس وإطلاق الرصاص، هي بوضوح استجابة قطعية لنداء "عليهُم عليهُم" بلا سؤال ولا عمل للعقل، تماماً مثلما تتبع الماشية صلصلة الأجراس في عنق التيس أو الثور في الأمام، متطامنة الرؤوس بلا تأمل في الوجهة والمصير. كل هذا في عالَم يطرح بقلق أسئلة وجودية عن مصائر البشر جميعاً وأمن الكوكب كله.
السؤال المحبط وسط كل هذا العمى الجماعي الكثيف: أيُّ عطار يمكن أن يصلح هذا الحجم مما أفسده دهر من السير خبط عشواء؟ وبأيّ إرادة وأدوات؟ لنْ تنفع النوايا الحسنة. ولن ينفع الحماس الفردي أمام مجموعة من التكوينات المتكلسة على بعضها والمتشبثة بما هي فيه. وفي الحقيقة، مسكين من يحاول التصدي لهذه الأسئلة والمهمات، وهو يرى من حوله يومياً ما يرى!
ثمة اقتراح واحد يعرضه المتفائلون في العالم: الاعتراف بالتدهور والاتجاه الانحداري، وإنما الأمل بأن يرتد عند نقطة ما، حين يصبح الوجع والوعي بالخطر أعمق من إمكانية التجاهل والاستغراق في الهذيان الطويل. ونحن هنا، كما تشير الأحداث المحبطة اليومية، بلغنا قاع الألم ويجب أن نصحو الآن. نحن نحتاج بإلحاح رغبة الحياة نفسها إلى مشروع وطني لا بد أن يبدأ من مكان ما وبطريقة ما. وإلا قادتنا الأجراس فقط في رقاب التيوس.