أي سياسات المرور تعمل بشكل أفضل للمدن الكبرى؟

ريما حنا*

كمبريدج- ينطوي التوسع الحضري على العديد من المزايا. فمن خلال الجمع بين الناس فيزيائياً، تُلهِم المدن الإبداع وتغذي الفرصة. وهو يجعل العمال أقرب إلى الوظائف ويسهل نشر الفنون والثقافة. لكن الفوائد التي تتيحها الحياة الحضرية تأتي مصحوبة بتكاليف في كثير من الأحيان. اضافة اعلان
ربما ليس هناك ما يُشعِرنا بالإرهاق -والحنق الصريح- أكثر من الازدحام المروري. فاكتظاظ الطرق وتلاصق السيارات يعني إهدار الوقت وتقصير أيام العمل. وتظل المركبات المتباطئة تطلق كميات هائلة من أبخرة العوادم، فتلحق الضرر بالبيئة وصحة البشر.
وقد حاولت حكومات عِدة وضع سياسات تهدف إلى الحد من الازدحام المروري من خلال جعل الجلوس وراء عجلة القيادة أكثر تكلفة. فمنذ العام 2003، فرضت لندن بنجاح رسوم الازدحام، في حين تريد سنغافورة استخدام تكنولوجيا تحديد المواقع العالمية لضبط استراتيجية تسعير الازدحام التي أقرتها.
بيد أن تنفيذ مثل هذه السياسات يُصبِح أصعب في الدول الأكثر فقراً، التي تفتقر غالباً إلى القدرات التكنولوجية والبنية الأساسية. ولهذا السبب تسعى الدول النامية عادة إلى تنفيذ سياسات أكثر بدائية لتحسين تدفقات حركة المرور.
على سبيل المثال، في الهند، دَفَع تلوث الهواء الخانق في دلهي الحكومة إلى تجربة سياسات "الأرقام الزوجية والفردية": حيث لا يستطيع الأفراد قيادة سياراتهم إلا في أيام معينة، استناداً إلى الأرقام على لوحات سياراتهم. لكن الأثر الذي خلفه هذا النهج كان ضئيلاً. وقد أظهر جابرييل كريندلر من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا أنه في حين تعمل هذه السياسة على تخفيف الازدحام قليلاً، فإن السائقين تحايلوا على القاعدة من خلال التحول إلى مركبات أخرى. كما بدأ الباعة ببيع لوحات قديمة حتى يتسنى للسائقين تغيير لوحاتهم حسب الحاجة.
من المحزن أن الهند لم تتعلم من تجارب دول أخرى. فقد أظهرت أبحاث لوكاس ديفيس من جامعة كاليفورنيا في بيركلي أن سياسة مماثلة، جرى تنفيذها في مكسيكو سيتي في العام 1989، لم تنجح في التقليل من تلوث الهواء -وهو الهدف المنشود- ولم تخفف بشكل ملموس من الازدحام المروري. وكما هو الحال في دلهي، وجدت الأسر في مكسيكو سيتي العديد من الطرق للتحايل على القواعد.
مع وضع هذه الإخفاقات الموثقة في الاعتبار، عكفت مع بعض الزملاء على دراسة سياسات ربما تكون أكثر فعالية. وبالتعاون مع بنجامين أولكن من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا وكريندلر، قمنا في جاكارتا في إندونيسيا بفحص التأثير المترتب على سياسة واسعة النطاق من القيود المفروضة على المركبات الضخمة، والتي تقيد السفر على أساس عدد الركاب في كل سيارة.
تعاني جاكارتا من بعض أسوأ الاختناقات المرورية في العالَم. ومنذ أوائل تسعينيات القرن العشرين، سعت حكومة جاكارتا إلى تحسين تدفقات المرور بالاستعانة بقاعدة فرضت على السيارات الخاصة التي تتحرك خلال ساعات الذروة في المنطقة التجارية المركزية في المدينة أن تحتوي على ثلاثة ركاب أو أكثر. بيد أن الجميع تقريبا أظهروا الاستخفاف بسياسة "ثلاثة في واحدة" هذه، وكثيراً ما اشتكى الناس من أنها تخلق المزيد من أسباب الانزعاج، من دون أن تقلل من الوقت الذي ينفقونه على الطريق. وسعت أبحاثنا إلى تحديد التأثير الحقيقي المترتب على هذه السياسة كمياً.
في الدفاع عن الرأي القائل بأن هذه السياسة كانت مرهقة وغير فعّالة، كثيراً ما أشار السائقون إلى العمل غير الرسمي المتمثل في تجنيد ركاب "محترفين". كان هؤلاء "المحتالون" ينتظرون بالقرب من نقاط الدخول إلى الطرق التي تطبق عليها سياسة "ثلاثة في واحدة"، وفي مقابل نحو 15 ألف روبية (1.10 دولار)، يرافقون السائقين حتى تمر مركباتهم من المنطقة. وكان بوسع السائق الوحيد الذي يحتاج إلى راكبين إضافيين أن يستأجر أُماً ومعها طفلها. ووفقاً لمعارضي هذه السياسة، فما بدا وكأنه استخدام مجمع للسيارات كان في حقيقة الأمر تهرباً منه.
وفي نهاية المطاف، انحازت حكومة جاكارتا إلى رافضي هذه السياسة، معلنة في آذار (مارس) 2016 أن القواعد المعمول بها ستعلق إلى أجل غير مسمى.
من منظور الباحثين، أتاح هذا فرصة ذهبية لقياس تأثير السياسة قبل اعتمادها وبعد إلغائها مباشرة. ولتحقيق هذه الغاية، لجأنا إلى واجهة خرائط غوغل كل عشر دقائق، على مدار 24 ساعة يومياً. وبالاستعانة ببيانات المرور اللحظية المستقاة من مصادر حاشدة لكل مسار كان خاضعاً للقيود سابقاً، بات بوسعنا التأكد مما حدث لتدفقات المرور بعد تعليق السياسة.
وكانت النتائج مذهلة. فعلى الرغم من تصورات السائقين -والحكومة في نهاية المطاف- كانت سياسة "ثلاثة في واحدة" فعّالة للغاية في الحد من الازدحام. كما أظهرت بياناتنا أن الازدحام المروري تفاقم بشكل كبير بعد إلغاء السياسة. فعلى طرق جاكارتا الخاضعة للتنظيم، انخفض متوسط السرعات من 28 كيلومتراً في الساعة إلى 19 كيلومتراً في الساعة خلال الذروة الصباحية، ومن 21 كيلومتراً في الساعة إلى 11 كيلومتراً في الساعة خلال الذروة المسائية.
وعلاوة على ذلك، وجدنا زيادات في حركة المرور في أوقات من النهار لم تكن خاضعة للتنظيم سابقاً، فضلاً عن ظهور عدد أكبر من المركبات على الطرق غير الخاضعة للتنظيم في عموم الأمر. وعلى هذا فقد أدى تعليق السياسة إلى إنتاج زيادة في حركة المرور وتراجع في الاستخدام المجمع للسيارات.
كانت لهذه النتائج آثار على تدابير مراقبة حركة المرور في مدن أخرى. فعلى سبيل المثال، أشارت بياناتنا ضمناً إلى أن القيود التي فرضتها جاكارتا على السيارات الضخمة كانت أكثر فعالية من فرض رسوم الازدحام في لندن أو سياسة الأرقام الزوجية والفردية في دلهي. كما أشارت النتائج إلى أنه في حين كان حضور "المحتالين" في جاكارتا مرئياً، فإنهم لم يتسببوا في إضعاف تأثير السياسة.
مع استمرار ظهور المدن الكبرى في العديد من الدول النامية، من الممكن أن تساعد استراتيجيات مثل نهج "ثلاثة في واحدة" الذي طبقته جاكارتا في الحد من الاختناقات المرورية. ولكنها من غير الممكن أن تنجح في إنتاج الفوائد المنتظرة إلا إذا صيغت بحكمة، وفُرِضَت بفعالية، ودُرِسَت بشكل جيد. وسوف يظل الناس يسعون دائماً إلى التحايل على القواعد التنظيمية، ولكن يتعين على صناع السياسات أن ينظروا في جميع الأدلة قبل أن يقرروا اتخاذ الطريق الفرعية.

*مديرة مشاركة لبرنامج "دليل لتصميم السياسة" في جامعة هارفارد.
*خاص بـ "الغد"، بالتعاون مع "بروجيكت سنديكيت".