أي علاقة بين "السقف العالي" والشجاعة؟

اختل "سوق الكلام" في البلد بشكل ملحوظ، أقصد الكلام الموجه للعموم. وأبرز اختلالاته يكمن في فك الارتباط نهائياً بين السقف العالي وبين الشجاعة. فاليوم أصبح بمقدور أي كان أن "يدفش" في كلامه أعلى السقوف وأن يتجاوزها.اضافة اعلان
تذكرون، كلكم أو بعضكم، أنه في وقت مضى، كانت المنابر محدودة، ولم تكن متاحة للجميع. فقد كان في البلد صحيفتان أو ثلاث، ومحطة تلفزيون واحدة وإذاعة واحدة، وكان الكلام فيها محسوباً ومراقباً بشدة، وكانت سقوف الكلام فيها منخفضة ومدروسة، ولهذا كان يتعين على من يريد اختراق السقف أن يتحلى بقدر كبير من الشجاعة والاستعداد للتضحية، وعلى سبيل المثال، أذكر أن كاتبين معروفين مثل فخري قعوار وطارق مصاروة شافاهما الله، أوقفا لفترة من الزمن عن الكتابة بسبب بضع كلمات استطاعا تمريرها في مقالاتهما. كما أوقفت صحف بالكامل عن الصدور لأيام وأسابيع، عقوبة لها على كلمة مرت هنا أو هناك، وأحياناً بسبب خطأ مطبعي.
وحدها المنشورات السرية، كانت تتمتع بالسقوف العالية في كلامها، لكنها كانت خالية من أسماء الكتاب، وقد لا تفصح عنها إلا بعد وفاة "الرفيق"، وكانت شجاعتها تنسب للجهة التي أصدرتها، كالأحزاب والتنظيمات، التي كانت تحاسب أيضاً إذا رفعت السقف أكثر مما هو متفق عليه ضمناً في قواعد اللعبة، ولهذا كانت التنظيمات السرية تخوض صراعها الداخلي الخاص حول سقف كلام التنظيم ككل، حتى مع كونه مقتصراً على المنشورات السرية، لأن تجاوزه يتطلب شجاعة المجموعة الحزبية كاملة.
يصنف هذا الوضع الموصوف أعلاه تحت عنوان "التضييق على حرية التعبير"، ولهذا كان على من يرفض هذا التضييق، أن يكون شجاعاً بالضرورة.
هذا بالطبع وضع غير سوي، فالأصل أن من حق الإنسان أن يعبر عن رأيه، أو على الأقل، إن الإنسان بطبيعته يريد أقصى درجات حرية التعبير وفق تصوراته لهذه الحرية.
يمكن القول الآن إننا كغيرنا من بلدان مماثلة حققنا شيئا على هذا الصعيد، فقد ارتفعت السقوف كثيراً، فهناك الآن انتشار غير محدود في المنابر كماً ونوعاً. واليوم بمقدور من يريد أن يبث ما يشاء من الأصوات والصور الثابتة والفيديوهات وأن يكتب ما يريد.
وبالطبع هناك قدر من المحاسبة في بعض الحالات، ليس بالضرورة أن تكون أعلاها سقفاً. لكن على العموم، يمكن القول إن السقف الذي يتمتع به "الناشطون" و"المؤثرون" يفوق كل السقوف التي تمكنت منها حتى المنشورات السرية، إن أغلب الأحزاب لم يكن بمقدورها أن تكتب ما يكتبه هؤلاء على صفحات فيسبوك أو القنوات الخاصة والفيديوهات الشخصية التي تصل إلينا على شاشة الهاتف من دون عناء، ومن دون تحمل مسؤولية أيضاً.
ولكن الطريف أن أصحاب السقوف العالية المعاصرة، يتوهمون أن العلاقة بين السقف العالي والشجاعة ما تزال على حالها؛ أي أنهم يريدون منا أن نتعامل معهم كشجعان بالضرورة.
هم على الأغلب، لم ينتبهوا إلى أن ارتفاع السقوف الكبير هذا، لم يترافق عندهم مع وجود الجدران أو الأعمدة المطلوبة لحمل هذا السقف المرتفع، ولهذا تجد السقف المرتفع ينهار فجأة مع أول حركة "ترغيب" أو "ترهيب" أو حركة "ترهيب يتلوه ترغيب" أو العكس.
في أحسن الأحوال، لدينا "شجعان جدد" وهي تسمية تحتاج لتعريف جديد للشجاعة، ذلك أن الصنف التقليدي من الشجاعة أخذ يبحث عن ميادين جديدة.