أي فساد تحاكمون؟

ما من مشروع أو صفقة تمت في السنوات الأخيرة إلا وتحولت إلى ملف تدور حوله شبهات فساد. مرحلة بحالها تخضع في هذه الآونة للتحقيق والمساءلة؛ رجالها وكبارها يتقاطرون أمام القضاء و"مكافحة الفساد" ولجان التحقيق النيابية، شهودا ومتهمين.اضافة اعلان
لا نعلم إلى أين ستنتهي التحقيقات، ولا أي مصير ينتظر المطلوبين. ولا ندري إن كان بعض الشهود سيتحولون إلى متهمين. لكن الشيء المؤكد أن حكما بالإدانة السياسية قد صدر على تلك المرحلة. وفي مثل هذه الحالة، يروح المسؤول الصالح بعروة الطالح، وتضيع الإنجازات والنجاحات وسط سيل الاتهامات.
أسوأ ما حصل في حالتنا أن الفساد صار مثل مرض السرطان، نعيش آثاره المدمرة وهو ينهش جسد الدولة، لكننا نعجز عن وقفه بعد أن أصبح جزءا من المنظومة التشريعية والإدارية. نعلم علم اليقين أن فلانا فاسد استغل منصبه، وطوّع القوانين لمصلحته، وأثرى على حساب الموقع الرسمي، لكننا لا نملك الدليل عليه، ولا نتمكن من منعه من العودة إلى المنصب العام مرة ثانية.
وفي القضايا المنظورة أمام القضاء ولجان التحقيق، سيواجه المحققون صعوبة في العثور على أدلة دامغة للإدانة، كما يستحيل استعادة الأموال التي أنفقت على مشاريع فاشلة أو ضاعت في صفقات مشبوهة، أو تلك التي أهدرت بدون وجه حق.
بعض القضايا التي تدور حولها الشبهات ليست فسادا في الأصل، بل الأسلوب السيئ في إدارتها جعلها محل شبهة. وفي حالات أخرى كان مقتل المشاريع والصفقات غياب الشفافية والرقابة؛ فقد ساد نهج في الدولة يرى في رقابة المؤسسات التشريعية والحكومية بيروقراطية تعطل العمل وتعيق الإنجاز، فلابد من تجاوزها حتى لا تكون عائقا في وجه "الشبان" الطامحين للنجاح والتميز.
وفي ظل سيادة نهج مدمر كهذا، لم يكن مستغربا أن تُبرم اتفاقية بيع الميناء أو مبادلة الديون الأردنية من وراء ظهر السلطة التشريعية، أو أن يُمرر قرار خصخصة شركة تعدين كبرى على الوزراء في مكاتبهم للتوقيع بدون أن تحظى بنقاش جدي في مجلس الوزراء.
شهدنا في تلك المرحلة سقوطا مروعا لدور مؤسسات الدولة وهيبتها، وها نحن اليوم ندفع ثمنه الباهظ. لقد كان بمقدور مسؤول أمني أن "يجرجر" وزيرا إلى مكتبه متى شاء، وأحيانا يملي عليه القرارات بالتلفون. والوزير لم يعد وزيرا أو مسؤولا عن أعمال وزارته بوجود موظف في الديوان الملكي يخطط وينفذ، وما على الوزير إلا السمع والطاعة، وإلا فقد منصبه.
سقوط الولاية العامة للحكومات كان فسادا، والحط من قدر البرلمان بالتزوير وشراء الذمم كان فسادا، وهيمنة أصحاب البزنس ورجال الأمن على القرار كان فسادا. فأي محكمة في العالم تنظر في هذا النوع من القضايا؟!
دعونا نفكر في حل بديل، حل يضمن أن لا يستمرهذا النهج أو يعود في المستقبل، وأن نطوي الصفحة السوداء إلى الأبد.

[email protected]