أي مستقبل للعمل؟

حدثت، في السنوات الماضية، تحولات كبرى عصفت بأعمال كثيرة، وأنشأت أعمالاً جديدة. واليوم، يتساءل العلماء، وتستنفر الجامعات والمؤسسات الكبرى، بما في ذلك وكالة الاستخبارات الأميركية، للنظر في مستقبل الحياة عندما تغير التكنولوحيا المعلوماتية العمل، أو تحل محلّ الإنسان؛ هل يتحول الإنسان إلى كائن ليست له ضرورة، مثل الخيل على سبيل المثال؟ يتساءل الأستاذان في جامعة ماساتشوستس إيريك راينيولفسون وأندرو مكافي، في دراسة نشرت في مجلة "فورين أفيرز"، وترجمت في "الغد"، بعنوان "العمل في العصر الثاني للآلة: هل يلاقي البشر مصير الخيول؟". ويذكر أن عدد الخيول في أوائل القرن العشرين في الولايات المتحدة كان حوالى 21 مليوناً، وتناقص في خمسين عاماً إلى ثلاثة ملايين.وربما يكون العمل نفسه يتعرض على نحو جوهري لإعادة تعريف، أو ربما يعود إلى معناه السابق للمرحلة الصناعية، عندما كان الإنسان يدبر بنفسه حياته واحتياجاته الأساسية، من دون حاجة إلى العمل بمفهومه القائم، والذي صرنا نحسبه أصلاً أو هدفاً بذاته؛ فلماذا العمل إذا كان الإنسان يستطيع أن يعيش بلا عمل؟اضافة اعلان
يكدح الإنسان طوال حياته لأجل تقاعد مريح، أو شيخوخة كريمة. وفي أثناء ذلك قد يتعثر بالمجد والثراء. كيف ينجو المرء من فخ المجد ليحظى بالراحة والنهاية الجميلة؛ يستمتع بحياته مسترخياً وبلا عذاب ضمير، فلا يعذب الضمير مثل عمل لم ينجز؟ كيف تحول العمل من وسيلة إلى غاية؛ لم يكن العمل إلا لأجل البقاء أو تحسين الحياة؟ أن تمضي حياتك في العمل وتنسى الغاية التي تعمل لأجلها، فإن ذلك يقلب الحياة. ولكن عندما يتحول البشر كلهم إلى "مقلوبين"، يصير ذلك هو الأصل. اليوم، يفترض أن يكافح الناس والمصلحون لأجل استعادة الأصل؛ الراحة بلا عمل.
لماذا نمارس الراحة خلسة مع شعور بالذنب، رغم أننا نحصّل النقود ونسعى إليها لأجل أن نرتاح؟ وإذا استطعنا أن نحصل على الراحة من غير عمل أو نقود، فلم العمل؛ ولم الشعور بالذنب؟
ماذا كانت الجنة قبل أن يهبط الإنسان منها؟ راحة متواصلة من غير جوع ولا ظمأ. أراد أن يعرف وأن يكون خالداً. والأصل أن قصة البشرية هي العودة إلى الراحة، إلى ما قبل المعرفة أو ما قبل السعي إلى المعرفة. لم يكن شقاء البشرية إلا بسبب المعرفة، أو لم يكن الشقاء سوى المعرفة؛ ليس فقط شقاء الطرد إلى الأرض، ولكن المعرفة بذاتها شقاء. التوراة تروي أن آدم وحواء كانا عاريين ولم يكونا يعرفان أو يدركان ذلك أو لم يحفلا بذلك، وحين أكلا من شجرة المعرفة أدركا ان العري خزي، فحاولا أن يسترا عريهما بورق الجنة! هكذا كان شقاء الإنسان في المعرفة، فهل هو شقاء بالفعل؟ أم كان الشقاء هو ما قبل المعرفة؟ الشقاء والألم هو أن تعرف أنك شقي أو أنك تتألم. إذا لم تعرف فأنت سعيد، أو أنك لست شقياً ولا تتألم أيضاً.
الإنسان لا يعود إلى مرحلة سابقة، ولكنه يرقى بنفسه ليتخلص من العمل في هيئته الحالية. فقد كان هذا العمل خلاصاً من العبودية، وقد يكون اقتصاد المعرفة خلاصاً من الوظائف والأعمال لحساب الآخرين، والتي كانت أفضل من العبودية أو عبودية بشروط أفضل؛ ليعمل الإنسان بنفسه ولنفسه، ويعلّم نفسه بنفسه، ويداوي نفسه بنفسه، بمستوى من الكفاءة والتقدم لا يقل عما تقدمه الشركات والمدارس والمستشفيات والأعمال والمهن السائدة. وربما يتناقص عدد البشر أو تقل الحاجة لكثير منهم، وربما ترتقي "الروبوتات" والكائنات الحية الدقيقة المحوسبة أو المطورة بنفسها، لتؤدي معظم إن لم يكن جميع أعمال البشر، وحينذاك قد يكون البشر ارتقوا بأنفسهم إلى مرحلة جديدة أو ينقرضون كما انقرضت كائنات حية أخرى كثيرة. وربما يكون العمل ليس إلا حالة طارئة وغير جوهرية في حياة الإنسان، فيستغني عنها بلا تغير جوهري في حياته. هل نبالغ في تقدير قيمة العمل؟