أي مصلحة في الخطاب الطائفي..؟!

لا شيء سيصف الجنون الذي يضرب هذا الإقليم الآن. لم يعد الخطاب العنيف والعدائي يقتصر على المتطرفين الدينيين المعروفين، وإنما يشارك فيه آخرون كثيرون –بوعي، وغالباً بلا وعي- بتأكيدهم على الاختلافات، وبازدرائهم أي مشتركات. وإذا كان هؤلاء سيرجمون كل مَن يتحدث عن مشتركات قومية، أو إقليمية، أو تاريخية، فإنهم يجب أن يتواضعوا أمام مشترك منطقي لا ينبغي أن يجادل فيه أحد: المصلحة.اضافة اعلان
يشير العقل –إذا كان ثمة عقل- بأنه لا مصلحة لأي من سكان الإقليم البائسين في الصراعات الدموية والأحقاد. وقد تعلم الناس في الغرب هذا الدرس، بالطريقة الصعبة وبخسران ملايين الأرواح والممتلكات. لكنْ لدينا هنا طبع بشري خام يجلب من الويلات أكثر من الفوائد: لا أحد يحبذ التعلم من خبرة غيره، وإنما يصر على التعلم "من كيسه". وكان ينبغي، لو كان ثمة حكمة، أن لا ينجر مواطنو الإقليم العاديون إلى فخ خطاب الانفصال، بحيث يدفعون بدمائهم ثمن حروب الأنظمة وهيمنة الغرباء.
في إيران، يتحدثون عن نظام مستبد منفصل عن شعبه، يستهدف المنفتحين على التنوع والحياة والسلم. وفي تركيا يتحدثون عن شيء مشابه. وفي المنطقة العربية، نعرف ذلك بتفصيله الممل في بلداننا المريعة. ومع ذلك، ينخرط المساكين المأزومون في كل هذه الأماكن في صراعات الأنظمة بذريعة النفوذ الإقليمي؟ نفوذ مَن، إذا كان البسطاء الذين يدفعون الكلفة بالدم والدموع يعرفون أن لا حصة لهم من هذا "النفوذ" سوى المزيد من استقواء أنظمتهم "النافذة" عليهم؟
يحيرني دائماً سؤال مربك: لماذا قد يشارك مواطن عادي في خطاب الحرب والعداء ضد مواطنيه أو جيرانه، ولا يدري أن ذلك سيجعله ضحية محتملة غداً؟ والأنكى: كيف يمكن أن يشتغل "مثقف" أو "تنويري" في أي من جهات الصراع، في ترويج الخطاب الطائفي التقسيمي، فيشارك في تحويل مواطنيه إلى مشاريع ضحايا أو قتلة؟ لماذا لا ينحاز المؤثرون في كل أرجاء الإقليم إلى قضية الناس العاديين المغبونين عند كل الأنظمة، بمحاولة استدعاء المشترك وعقلنة فكرة المصلحة العملية في السلم والتعاون؟
أتذكر كثيراً مقولة حكيمة لكاتبة بريطانية هندية متنورة حقاً، ياسمين علي ألبهاي، في حديثها عن الأيديولوجيات العصبوية والحديث الطائفي. قالت ما معناه: تصوروا لو أن بلدي، الهند -الذي يضم ما لا يقل عن مائة ملة ودين- أصبح دولة يحكمها خطاب ديني أو طائفي، وانخرطت طوائفه وأديانه في صراع من هذه المنطلقات!
بطبيعة الحال، كانت الهند لتتقوض على عروشها، على النحو الذي يصفق له المغبونون –أو الماكرون- الكثر بيننا، الداعون إلى هدم السقف على الجميع. في الأساس، لا عداء أساسياً بين الإيرانيين العاديين والعرب العاديين؛ ولا بين الأتراك العاديين والعرب العاديين. في زمن ليس بعيداً، لم نكن نسمع عن أي من هذا العداء الذي نراه كله. كان هناك شكل من الصداقة والدبلوماسية الحميدة يحكم العلاقات البسيطة بين الناس. لم نكن نسمع أحداً يردد قصة السني والشيعي والمسيحي والأيزيدي والفلاني والعلتاني. وفي الحقيقة، ليس لدى أطراف الصراع في الإقليم ما تتقاتل عليه سوى الخيبة، إنهم جميعاً نهب لسطوة الآخرين ويتعلقون بأذيال قوى الهيمنة الحقيقية. إيران تستجدي وسائل القوة من روسيا وتحاول الالتحاق بوصاية أميركا؛ وتركيا تقبل الأقدام حتى يقبلوها في الاتحاد الأوروبي، والعرب غير محسوب لهم حساب هنا ولا هناك.
لو كان للمتحكمين النهائيين في قوى الإقليم ضمير –وأنى يكون لهم ذلك- لاستعملوا نفوذهم في جمع الأطراف على المشترك ونبذ المتفارق. ولو كانت أنظمة المنطقة –عربية وغير عربية- وطنية، بمعنى عنايتها بمصالح مواطنيها وسلامتهم وسبل عيشهم اليومي، لاختارت الحل المحسوب بالورقة والقلم (وغير التبسيطي تماماً، لأنه طريقة عمل المعلمين في الغرب): اشترِ مني ما عندي وسأشتري ما لديك؛ أرسل أبناءك ليتعلموا ويعملوا عندي، واستقبل أبنائي؛ استثمر لديّ ودعني أستثمر عندك. لن تستفيد إذا عاديتني وسأخسر إذا عاديتك؛ لن دخل لي في شؤون بيتك ولا تتدخل في بيتي؛ لنكن جيراناً ودودين ولنحدد المستفيد من حروبنا وكيف نخسر جميعاً لحسابه.
لكل أنواع مصالح البسطاء في الإقليم، ينبغي رجم شياطين الخطاب التقسيمي –لا سيما الطائفي البغيض. أما ترويج ذلك، فيتطلب استنطاق الضمير!