إدارة أصول الوقف وجهة نظر


الأصل في مشروعية الوقف، الكتاب والسنة الثابتة عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وكذلك إجماع علماء الأمة، أما الكتاب، فقول الله تعالى: "لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون" (آل عمران 92)، وفي صحيح مسلم (1631) عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة: إلا من صدقة جارية أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له"، وقد ذكر العلماء أن الصدقة الجارية هنا: هي الوقف، لجريان العمل بها مع جريان أجرها بسبب بقاء عينها.
فالوقف في التاريخ الإسلامي لعب دوراً مهماً في الحياة الاقتصادية للدولة الاسلامية فلاقى اهتماماً من الحكام وعلماء المسلمين وحظي بعناية كبيرة منهم للمحافظة على منفعته العامة وحمايته كذلك من الإهمال وسوء التصرف أو شبهات الفساد في مفهومنا الحاضر، والفكرة الأساسية التي يبنى عليها المفهوم الاقتصادي للوقف هي استمرارية توليد الدخل والانتفاع منه مع الزمن للمنتفعين من هذا الوقف سواء كانت المنافع عامة أو للخاصة.
اذا للوقف مساران للاستهلاك؛ الأول مسار استهلاكي آني ومستمر كما هو في توفير الطعام والملبس، وكذلك في تلبية حاجاتهم الأخرى من ثقافية وتعليمية وصحية، وذلك من خلال توفير الخدمات المجانية من مدارس أو مكتبات أو مستشفيات ولو بتكلفة رمزية، والثاني على شكل أصول دائمة كما هو الاستثمار في العقارات والمزارع أو السيارات والمعدات؛ أي أن صفة الدوام هي أهم ما يتميز به الوقف، كأصل استثماري مستديم، ولهذا يحقق الوقف مفهوم التنمية المستدامة، لاعتباره من الأصول الرأسمالية اللازمة لعملية التنمية، وهو بذلك يعني دوام أصل العين وبقائها لتنتفع بها الأجيال المستهدفة من هذا الوقف.
فاستثمار هذه الأصول هو تحقيق لمفهوم الصدقة الجارية ومنعاً لتعطيل منافع هذا الوقف، فالمهم هو معرفة الكيفية التي يستثمر بها الوقف، ففي المفهوم التقليدي، فإن استثمار الوقف لا يتعدى تأجير المباني والمحلات التجارية وكذلك تأجير الأراضي والتصرف بالعوائد هذه لصالح المستفيدين منه، أما اليوم ومع تطور الصناعة المصرفية الإسلامية وتعدد أدواتها الاستثمارية فلم يعد جائزاً البقاء مكاننا بدون أن نتقدم في وسائل استثمار أصول الوقف والانتقال إلى أساليب متوافقة مع أحكام الشريعة الإسلامية؛ أي الاستثمار في صيغة المضاربة والسلم، وصكوك الإجارة والمقارضة المتناقصة والصكوك العقارية والمزارعة، أو في المشاركة في رأسمال الشركات وصناديق الاستثمار أو المحافظ الاستثمارية، فهذه الصيغ وغيرها من الصيغ التي أقرتها الشريعة الإسلامية ستسهم في تحقيق عوائد للأصول الوقفية، وفي الوقت نفسه تسهم في تمويل المشاريع التنموية التي تعود كذلك بالنفع على المجتمع، مع تأكيد الالتزام الكامل بالضوابط الشرعية عند اختيار نوع الاستثمار كأن يكون الهدف منه تحقيق مصلحة ومنفعة متوافقة مع الشرع، ولا تتقاطع معه.
ويترافق ذلك مع عمل دراسات الجدوى الاقتصادية والاجتماعية، وذلك حفاظاً على أموال الوقف من الهدر والضياع في مشاريع لا فائدة منها أو تعرضها للفساد وسوء الإدارة، وهذا يتطلب كذلك الاهتمام بناظر الوقف من حيث التدريب وتنمية مهاراته المعرفية بصيغ وطرق إدارة استثمارات الوقف وعدم تعرضها للمخاطر، ففي الغرب هناك العديد من الجامعات والمدارس الوقفية، ولا أبلغ من مثال جامعة هارفارد الأميركية، وهي من أول خمس جامعات في العالم وتحتل المرتبة الأولى من حيث حجم وقفياتها وأصولها والتي تفوق الـ37 مليار دولار، تليها جامعة Yale التي بلغت وقفياتها 24 مليار دولار، ثم جامعة ستانفورد (بأصول وقفية بحدود الـ18 مليار دولار)، تليها جامعتا برنستون وتكساس اللتان تجاوزت قيمة أصولهما 16 مليار دولار، وهناك العشرات من الجامعات الوقفية فقط في الولايات المتحدة الأميركية، وفي بريطانيا بلغت أصول وقف جامعة كامبرج بحدود 9 مليارات دولار وجامعة أكسفورد 6 مليارات دولار، وهناك الكثير يصعب حصره في سطور هذه المقالة.
ولا حرج من أن نستفيد من التجارب الناجحة لبعض الدول في استثمار أموال الأوقاف بدون تعريضها للمخاطر، فهناك بعض الدول الإسلامية والغربية لديها بعض التجارب الناجحة في توظيف أصول الوقف وإدارتها، وتعمل على توظيف هذه الأموال في مجالات منخفضة المخاطر مثل السندات الحكومية، وأسهم الشركات العملاقة وأحياناً العقارات ذات العائد المضمون وتديرها هيئات ومؤسسات لديها الأهلية لهذه المهمة.

اضافة اعلان

*باحث ومتخصص في التمويل الإسلامي