إدارة الحرب النفسية الحديثة بالعقلية القديمة

منذ أول حرب جرت في العصور الموغلة في قدمها، وبغض النظر عن ماهية دوافعها ومسوغاتها وبدائية أدواتها، كانت الحرب النفسية ركناً ركيناً من عمليات الغزو والتوسع والإخضاع. إذ كانت تبدأ بإشعال النيران وقرع الطبول، وتتطور مع كل تقدم معرفي تحققه البشرية، وكل خيرة يكتشفها القادة العسكريون بالتجربة والممارسة العملية، بما في ذلك الإبداع في فنون الخداع والتهويل والترويع.اضافة اعلان
تحولت الحرب النفسية في العصر الحديث إلى مادة علمية يتم تدريسها في الكليات العسكرية على أيدي علماء نفس وخبراء استراتيجيين بارعين في هذا المجال، الذي صار يعتمد أكثر فأكثر على التكنولوجيات المتقدمة، ويتوسل مفاهيم استخبارية حديثة، تقطع شيئاً فشيئاً مع ثقافة الكذب والخداع التقليدية البالية، لتستبدلها بالمكاشفة المحسوبة بدقة، ودمجها بالعلوم المتطورة، جنباً الى جنب مع ما بات يعرف باستراتيجية التضليل الاستراتيجي.
في الذاكرة المثخنة بالانكسارات والفواجع، يسترجع المرء من خزانة خبراته الذاتية، النتائج المريرة لحرب حزيران (يونيو) 1967، وكيف أدى انكشاف الكذب بسرعة، إلى تعميق الآثار النفسية لتلك الهزيمة المنكرة، وكسر الروح والمعنويات العربية، بدرجة أفدح من خسارة الأراضي وانهيار الجيوش، فيما أدت آخر حرب خاضها حزب الله، بكفاءة، ضد إسرائيل العام 2006، على قاعدة من الصدق والمصارحة، إلى جعل الإسرائيليين المعتدين يهجرون وسائل إعلامهم، كي يستقوا الحقيقة من إعلام عدوهم مباشرة.
يقودنا هذا كله الى إلقاء نظرة فاحصة على مجريات المعارك الجارية في سورية والعراق مثلا، وعلى ما يتم فيها من عودة مشينة إلى أساليب الحرب النفسية القديمة، القائمة على تزييف الوقائع وتضليل الناس، وأحياناً قلب الحقائق، إلى الحد الذي لم تعد فيه هناك أي ثقة بالناطقين العراقيين، وحدث ولا حرج عن المتحدثين العسكريين والإعلام السوري الرسمي. حتى إن حزب الله المشهود له، سابقاً، باعتماد منهج الصدق والمصارحة، انقلب على نفسه، منذ أن تورط في الحرب ضد الشعب السوري.
ولعل مشهد تبادل الأسرى والمخطوفين في بلدة عرسال، وما انطوى عليه ذلك المشهد الصاخب من حضور لافت لمقاتلي جبهة النصرة في الجرود الحدودية اللبنانية، التي أخبرنا الحزب أنه طهرها من الإرهابيين والتكفيريين تماما، هي خير مثال على هذا الارتداد الفاضح عن تلك السياسة الإعلامية، التي جلبت لأصحابها، في حينه، سمعة لا تقل أهمية عن سمعة ما أبلاه المقاومون في جنوب لبنان من صمود هائل، رفع الحزب إلى أعلى مكانة لدى الأعداء والأصدقاء على حد سواء.
غير أن ما يلفت الانتباه حقاً، هو أن روسيا، التي لا ينطوي سجلها في الحرب على ما لحزب الله من سجل حافل بأمجاد محققة في ميدان الحرب النفسية، ظلت على عهدها القديم في هذا المجال، تلجأ إلى التهويل والمبالغات الشديدة، وكأنها تنهل من معين المدرسة الإيرانية الموصوفة بالتزييف المنهجي الدائم لوعي الرأي العام. حيث ما إن انطلقت طائرات السوخوي في السماء السورية، حتى مضت أجهزة الإعلام الروسية في فبركة الوقائع وقلب الحقائق، غير مدركة أن العالم دخل عصر الصورة الأصدق إنباءً من كل خزعبلات الكلام.
ويكفي إلقاء نظرة سريعة على منهج الإعلام الروسي منذ سقوط السوخوي على الحدود التركية، وما انطوت عليه رسائل موسكو الدعائية المخاتلة، بما في ذلك التزوير سريع الانكشاف، خصوصاً فيما يتعلق بتجارة النفط وتهريبه عبر تركيا، ناهيك عن انتصارات الجيش السوري المتلاحقة بفضل غطائها الجوي، لنرى بأم العين، وفق ما تقوله لنا الصورة، أن روسيا تدير حرباً نفسية عتيقة، بعقلية عفا عليها الزمن، وغير ملائمة لتكنولوجيا الأسلحة المبهرة، المستخدمة في حرب تبدو طويلة ومفتوحة.
والحق أن الحرب كإحدى أسوأ الاكتشافات الإنسانية على الإطلاق، كانت تنطوي على الخديعة دائما، وتعمد إلى التغطية وإسدال الستائر الكثيفة على النوايا المبيتة، بل والنتائج إذا لم تكن مواتية. إلا أن الحرب دخلت الآن طوراً جديداً لا رجعة عنه، وذلك منذ أن دخلنا جميعاً إلى عصر الصورة الحية، الأمر الذي لا يمكن معه بعد اليوم إدارة الحروب الحديثة بتلك الذهنية الشمولية، التي تتوهم أن إنكار الحقيقة كفيل بإلغائها، ومن ثم سحبها من التداول في زمن "الإنترنت" والمحطات الفضائية.