إرث ثريا السلطي يتجدد!

 أحيا شبّان وشابات قبل أيام الذكرى الأولى لرحيل ثريا السلطي مستذكرين عطاءها وريادتها، بعد عام على مغيبها المفجع إلى جانب شقيقتها جمانة. واستعرض المؤبنون خصال أول رئيس لمؤسسة "إنجاز" للناشئين في الشرق الأوسط وشمال افريقيا؛ إحدى كبريات المؤسسات الدولية المنذورة لتأهيل آلاف الطلبة بأدوات إبداعية، بما يمكنهم من ولوج سوق العمل صعودا إلى إدارة مشاريع ناجحة في بيئات عمل عالية التنافسية.اضافة اعلان
تجمع الأحباء في مبنى مركز كولومبيا لأبحاث الشرق الأوسط في عمان بحضور والدي ثريا وجمانة -- عامر وربيكا – والطفلة راية ابنة ثريا وزوجها وليد البنوي. وأعلن البنوي في هذه الفعالية عن إطلاق سلسلة "ثريا السلطي من شباب لشباب"؛ وهو برنامج حواري تفاعلي يستضيف نماذج شبابية ابتكرت مشاريع ريادية فخلقت فرصا وأطلقت العنان لطاقات شباب عبر ترجمة أفكارهم إلى مشاريع تنموية تفيد المجتمع وتنشّط دورة الاقتصاد. إنها مبادرة على خطى المرحومة ثريا، التي استثمرت في الشباب لأكثر من عقدين.
مثل هذه الحوارات تفسح المجال لتبادل الأفكار، قنص الفرص ومواجهة التحديات أمام الشباب. كما تحافظ على شعلة الريادة التي أوقدتها الراحلة بينما كانت تشع نورا وطاقة إيجابية، جعلتا منها مثالا ناصعا للفتاة الأردنية المكللة بالنجاح المهني-الأكاديمي-الاجتماعي. وفوق ذلك، كانت منبعا للخير والعطاء والتميز على مستوى العالم العربي ومجتمعاته الذكورية المحافظة، التي تنظر للمرأة بدونية وتميز ضدها قولا وفعلا وقانونا.
من موقعها على رأس مؤسسة "إنجاز العرب"، أنارت "الثريا" الدرب لأزيد من  مليوني شاب وفتاة في 14 دولة عربية، من خلال مشاريع ربطت طلاب جامعات بمشرفين في القطاع الخاص، وفّروا مهارات لضمان ديمومة النمو الاقتصادي، بعد فشل الحكومات في توفير فرص عمل في منطقة مبتلاة بأعلى معدلات بطالة بين الشباب.
هذا جزء من الإنجازات. والحبل على الجرار.
بدأت ثريا عملها في تعزيز قدرات الشباب – نصف عدد سكان العالم العربي -- قبل عقدين في منطقة لا صوت فيها للشباب، يتخرجون في جامعات ومدارس تفتقر لأدوات بناء المعرفة والتمكين.
أكثر ما كان يقلقها ثالوث البطالة وغياب الإصلاح السياسي ومنظومة تعليم متقادمة، ما انفكت تغرق في نبش الماضي وفق أسلوب تلقيني لم يترك لمكونات العقل البشري فرصة للتأمل والإبداع. كل ذلك يقذف الشباب في شباك التهميش والتيه والبطالة ثم الإحباط والرغبة في الهجرة للغرب أو في أحضان التطرف الفكري ومنظمات الكراهية مثل داعش وأخواتها.
في حوارية عمان، الأولى ضمن هذه السلسلة، استمع الجميع للشابة الإماراتية المبدعة نجلاء المدفع، مؤسسة مبادرة "خيرات"؛ وهي منصة الكترونية تستخدم وسائل التواصل الاجتماعي لتعريف الشباب بفرص العمل المتاحة في القطاع الخاص، وتركز على قصص نجاح لكي تشحذ هممهم. وهي اليوم كذلك مدير عام مركز الشارقة لريادة الأعمال "شراع"؛ مبادرة انطلقت مطلع 2016 بدعم حكومي في الجامعة الأميركية بالشارقة. تستهدف هذه المؤسسة ترسيخ بيئة حاضنة لريادة الأعمال المرتكزة على توظيف الابتكار والإبداع والتطوير، ودعم جيل الشباب بغض النظر عن الجنسية. الهدف الآخر هو لجم هجرة العقول العربية من خلال تشجيع الشباب على خلق شركاتهم وتحقيق أحلامهم في بلادهم: بدءا بالعالم الرقمي والتكنولوجيا مرورا بالتفكير النقدي والمهارات الشخصية اللازمة للتعامل باكورة مقابلات التوظيف ليصبحوا محفزين نحو التغيير الإيجابي والإبداع.
كانت أولى كلمات المدفع أنها تتمنّى لو انها تعرفت إلى ثريا عندما بدأت حياتها العملية في العقد الفائت. تحدثت الحاصلة على ماجستير إدارة أعمال في جامعة ستانفورد العريقة، عن فشلها الأولي حين طاردت أول فرصة عمل لدى شركة مكنزي الأميركية عقب نيلها درجة البكالوريوس. لم تحصل على مبتغاها لأنها لم تكن مسلحة بالمهارات المطلوبة لإجراء مقابلة توظيف. حينذاك، صمّمت على تحدي نفسها عبر الاستثمار في التعليم العالي وأخذ العبر من أخطائها. واليوم تتمتع المدفع بخبرة واسعة في قطاع المال والأعمال وتطوير الاستراتيجيات، وكانت أول مدير لصندوق خليفة لتطوير المشاريع، بعد أن عملت في شركات عالمية في بريطانيا وأميركا.
إلهام ثريا أنار طريق المدفع رغم أنهما لم تلتقيا؛ تأثرت عن بعد بعزمها على إحداث التغيير الإيجابي في أوساط الشباب. "تمنيت لو عرفتها بخاصة عندما تخرجت ونلت درجة البكالوريوس"، تقول المدفع مستذكرة حاجتها: "لمن يقدم لي النصح والإرشاد قبل أن أشق الطريق الصعبة، أنجح بتفوق وأصبح مثالا للشباب العرب".
تلك الأمسية استحضرت إرث ثريا، التي انتقل جسدها للرب بينما روحها الطاهرة لا تزال معنا، حال صفاتها التي أثرت على جميع من عرفها عن قرب، عمل معها أو تأثر بها كامرأة عربية ناجحة امتازت بالشجاعة والالتزام بقضايا مجتمعها الوطني والعربي مع المحافظة على التميز والأصالة.
بالتزامن مع سلسلة الحواريات، أنشأت كلية "انسياد" لإدارة الأعمال في أبو ظبي صندوقا للمنح الدراسية برصيد 50.000 يورو باسم الراحلة ثريا السلطي.
ويقدم الصندوق منحتين سنويا لسيدات أعمال شابات ورائدات في الشرق الأوسط، جنوب آسيا وأفريقيا. تمنح هذه المكرمة في إطار برنامج الريادة الاجتماعية بالكلية لإدامة شعلة التغيير، التي أوقدتها. وفّر السيد البنوي تمويل صندوق المنح مع إبقاء الباب مفتوحا لمساهمات مؤمنين برسالة الراحلة.
من الضرورة مواصلة الاستثمار في ما آمنت به الراحلة ثريا قولا وفعلا لحفز التغيير الإيجابي وخلق نماذج ناجحة كثريا وغيرها أمام الشباب، الذي فقد البوصلة ومفتاح المستقبل. فكل منا يقضّي معظم حياته في البحث عن نماذج يقتدي بها في حياته العائلية والمهنية، وغالبيتنا يختزن أحلاما وطموحات يطمح إلى تحقيقها أثناء حياته/ا. فنحن "على هذه الأرض لكي ندفع البشرية إلى الأمام"، حسبما قالت المدفع في ختام حديثها الشيق. ودعت الحضور إلى إعلاء الحكمة والتصرف بعقلية من يريد أن يكون صانع تغيير إيجابي عبر ثلاث إجابات للأسئلة الآتية: كيف تريد لحياتك أن تؤثر على حياة غيرك؟ لو كان لديك شيء واحد تقدمه لتحسين الواقع فماذا سيكون؟ وكيف تترك بصمتك على أي شيء تقوم به؟
من الضروري طرح هذه الأسئلة على أمل أن تتفهم الحكومات العربية وزعماء المنطقة بأن ازدهار المجتمع مرتبط ارتباطا وثيقا بإشراك الشباب في صنع القرارات وتعزيز روح المبادرة لديهم وإشراكهم في الهيكليات السياسية، كيما تستفيد دولهم من طاقاتهم.
وينبغي على مفاصل الدولة ومكونات المجتمع تبني الشباب كشركاء، والاستثمار فيهم للاستفادة من قدراتهم مسستقبلا. أما البديل، فهو تعمق الإحباط والقهر في غياب مستلزمات الحياة، المفترض أن تجعل الشاب جزءا من العصر الذي يعيش فيه. كنا طالما افتقر الشباب للأدوات المحفزة على التفاعل مع شروط الحياة المتبدلة بإيقاع سريع، فسيتحولون تباعا إلى مشروع مهاجر إلى بلاد الغرب أو متطرف؛ بحثا عن حياة لائقة على الأرض أو وعود في الحياة الأخرى.