إشكالية إعلان موقف من "الهولوكوست"..!

يطرح الموقف من «الهولوكوست»، قضية إشكالية تتشابك مع إشكالية «التطبيع». من ناحية، لا مشكلة في التعاطف المبدئي مع أي فرد أو مجموعة يتعرضون للاضطهاد أو الإبادة بسبب العرق أو اللون أو الدين. ومن ناحية أخرى، يجري استخدام «الهولوكوست» بالذات كأداة أساسية لترويج فكرة «المعاداة للسامية»، في ما يُترجم عمليا إلى تبرير سائد لاستيلاء الصهيونية على فلسطين العربية وإلحاق الضرر الإنساني والأخلاقي الهائل بأهلها.اضافة اعلان
يساهم هذا الواقع في صياغة الموقف من «الهولوكوست» على أسس موضوعية وعملية. فعلى الرغم من أحقية استنكار المذابح، تُستخدم هذه الحادثة –بغض النظر عن الشكوك التي تدور حول تعظيمها بالتحديد والعدد الحقيقي لضحاياها من اليهود- كوسيلة أساسية لتحقيق غاية غير أخلاقية. وبما أننا كعرب ومسلمين متضررون مباشرون من هذا الغاية، فإننا لا نستطيع أن نعزل الوسيلة عن سياقها وغاياتها. ويفرض هذا السياق، في شكله المتحقق، أن يساهم إعلان متعاطف مع ضحايا الهولوكوست من اليهود في تعزيز الرواية التي يروجونها لتبرير استعمارهم فلسطين، باعتباره «تعويضا» مستحقا عن الأهوال الحقيقية أو المتخيلة التي عانوا منها في أوروبا.
تعود إشكالية الموقف من الهولوكست الآن بسبب ذهاب جهات عربية-إسلامية أخيرا إلى إعلان موقف مؤسسي متعاطف. وكان إعلان مثل هذا الموقف، تقليديا، من المحرمات بسبب استخدام الهولوكوست بالطريقة الموصوفة في صراع أساسي نحن طرف فيه. ولذلك، تصعب رؤية رسائل التعاطف التي ترسلها مؤسسات عربية إسلامية شبه رسمية، مثل «رابطة العالم الإسلامي» إلى مديرة المتحف التذكاري للهولوكوست في أميركا، ثم ذهاب وفد منها للصلاة في معسكر أوشفيتز في بولندا، في معزل عن الاتجاهات الجديدة لهذا الصراع. ويحكي التوقيت شيئا، حيث يتزامن مع إعلان صفقة ترامب والاتجاهات التطبيعية العربية مع الكيان الصهيوني بلا مقابل.
بدت الرسالة التي أرسلتها الرابطة المذكورة إلى مؤسسة ذكرى الهولوكوست وكأنها تحاول تبرئة الإسلام من العنف والمذابح، وكأنه متهم أساسا بالمشاركة في المذبحة النازية. وليس المسلمون مطالبين في الأساس من التبرؤ من شيء لم يرتكبوه, وهم يعلنون دائما أنهم ليسوا ضد اليهود كيهود ولا غيرهم كأتباع أديان. وكان الأولى أن يعلنوا شجبهم لكل عدوان يرتكب باسم أي دين، وهو بالضبط ما تفعله الرواية الاستعمارية الصهيونية. وإذا كان على المسلمين أن يستنكروا أعمال النازية، فيجب أن يراسلوا بريطانيا وروسيا وبولندا (كدولة) وغيرها، والتي فقدت عشرات الملايين من مواطنيها في الغزو الهتلري. ويشبه موضوع هذا العزاء المتأخر بضحايا «المحرقة» (ونصفهم تقريبا من غير اليهود)، ذهاب قادة فلسطينيين للتعزية بقادة الكيان الميتين، برغم كل ما يمثلونه وينفذونه ويروجون له، بذريعة الواجب وإظهار حسن النية. والفارق ضئيل بين السذاجة وحسن النية –أو سوئها. وقادة الكيان لا يعزون بوفاة أي قائد فلسطيني.
إذا كنا لنعلن عن موقف متعاطف من الهولوكوست، فإننا يجب أن نتوقع إعلان موقف فوري مماثل من «الهولوكوستات» المستمرة التي تعرض لها العرب والمسلمون في قرون من الاستعمارات والغزو والقصف والإبادات. فضحايانا بعشرات الملايين من القتلى –حرفيا- وبمئات الملايين إذا احتسبنا العطب النفسي والحياتي نتيجة لكل ذلك. وعندما يتعلق الأمر بالفلسطينيين، فإن من الضروري فك الارتباط المفتعل بين الهولوكست في أوروبا واستعمار فلسطين، والاعتراف بالهولوكوست المتواصل ضد الشعب الفلسطيني كله على مدى أجيال.
إذا كان لا بد من إعلان موقف من الهولوكوست، فليكن ذلك في سياق. على سبيل المثال، إذا كنت تعيش في الغرب المؤمن بالهولوكوست وبأن إنكاره معاداة للسامية، وأردت أن تفلت من هذه التهمة الضارة هناك، فيمكنك أن تجعل اعترافك بالهولوكوست مشروطا. وقد فعل ذلك المفكرون العرب النابهون الذين قالوا للجمهور هناك شيئا من قبيل: إننا نتعاطف مع ضحايا الهولوكوست، ولكننا لم نكن مشاركين فيه ولا يجب أن نكون ضحية الضحية. الهولوكوست لا يبرر جعل الفلسطينيين ضحية ولا ذنب لهم فيه.
بالإجمال، إذا لم يكن مطلوبا منا إعلان موقف، فلا ينبغي أن نتبرع بمثل هذا الإعلان. وإذا كان أحد يعلن الآن موقفا من الهولوكوست في شكل عرض اعتذاري ذليل لسلمية الإسلام وكأنه مشارك، فإن هذا الإعلان يصعب أن يكون بريئا وأخلاقيا، بحسابات السياق والشكل والضرورة.