إشكالية الفقر والتطرف..!

تجمع معظم الآراء على أن الفقر يوفر تربة خصبة للعنف والأشخاص الجاهزين للتطرف والتجنيد. ولا ينحصر مظهر العنف المتطرف في الأعمال الإرهابية بصفاتها المعروفة، وإنما ينعكس في ارتفاع منسوب عدوانية الأفراد، وارتفاع مستويات الجريمة والاتجاهات الانتحارية. ولدى التأمل الانطباعي في حركة المجتمع الأردني، أصبحنا نميز اتجاهات مجتمعية عنفية غير مألوفة، سواء في ظواهر العنف الجامعي، والمشاجرات الجماعية، وسلوك الأفراد في الشارع، أو في عدد ونوعية الجرائم الغريبة التي أصبحنا نسمع عنها.اضافة اعلان
لم يكن المجتمع الأردني في أوقات أكثر سلمية قبل عقود غنياً من حيث الأوضاع المالية لغالبية المواطنين. لكن الذي ميز تلك الفترات، كان البساطة في المتطلبات، وتشابه أوضاع الناس وتجانسها في التكوينات الاجتماعية المختلفة. ولم تكن نزعة الاستهلاك قد تبلورت وتحكمت في اختيارات الأفراد ووجهاتهم. وبالإضافة إلى ذلك، كان يمكن وصف المناخ العام بأنه تقدمي وآمل. كان البلد في مرحلة بناء بحيث يعني شق شارع جديد أو وصول الخدمات إلى أحد الأحياء إنجازاً ملحوظاً. وكانت أعمال إنشاء البنية التحتية والمؤسسات التعليمية والحكومية على قدم وساق، بطريقة تعزز الانطباعات الإيجابية.
في العقود الأخيرة، تغيرت هذه الاتجاهات إلى حد كبير. وتسبب عدد من العوامل في إحداث فرز طبقي جديد وفي تعزيز نزعات الاستهلاك والتنافس. كما أصبحت البنية التحتية التي أنشئت بشق الأنفس تعاني تحت ضغط ارتفاع عدد السكان وموجات الهجرة الداخلية والخارجية. كما أدت مجموعة من السياسات إلى تراجع مستوى التعليم وانخفاض فرص عمل الأردنيين محلياً وفي المنطقة. وتبين أن البناء الاقتصادي لم يضع تركيزاً مناسباً على المشاريع الإنتاجية التي توفر الوظائف وتجلب الدخل. كما أن توظيف أعداد كبيرة من الأردنيين في القطاع العام صنع ترهلاً وبطالة مقنّعة ووضعاً أصبح صعب الإدامة بعد تضاؤل التمويلات الخارجية وتدخل المؤسسات المالية الدولية في رسم السياسات الاقتصادية المحلية واقتراح الإصلاحات.
الآن، مع انتشار العنف وتغوُّل الإرهاب والتطرف في المنطقة، أصبحنا نواجه معضلة. إننا في حاجة إلى الحفاظ على الاستقرار وخفض منسوب التوتر الاجتماعي، في حين نواجه استحقاق إصلاح الاقتصاد. و"إصلاح الاقتصاد" مفهوم مربك إلى حد كبير. فمن جهة، يُفهم إصلاح الاقتصاد على أنه العمل على تحويله بطريقة خلّاقة في اتجاه اكتساب هوية منتجة تنعكس على أحوال البلد والمواطنين. لكن المواطن في حالتنا يفهم أن إصلاح الاقتصاد يعني الضغط على إمكاناته فقط، برفع الرسوم والضرائب، وزيادة الأسعار ورفع الدعم، وتحميله كلف التعليم والصحة والخدمات المكلفة. وفي نفس الوقت، لا يفسر "الإصلاح الاقتصادي" حتى الآن كيف أن هذه الإجراءات ستوفر فرص العمل وتحول الاقتصاد إلى واحد منتج قادر على دعم نفسه، مما يعزز الاستقرار. ويتولد الانطباع بأن حالة الضغط دائمة وتزداد سوءًا.
المشكلة أن هذه الشروط نفسها هي التي توفر الأرضية لليأس وفقدان الإيمان بالحراك الدنيوي واللجوء إلى قوى غير أرضية. وعلى سبيل المثال، وجد استطلاع أجراه معهد غالوب باسم "مؤشر غالوب الدولي للتدين والإلحاد للعام 2012"، أن أكثر 10 دول تديناً في العالم، والتي استجاب 85 % من مواطنيها بأنهم "شخص متدين"، كانت فقيرة ومعدمة، حيث تدور حصة الفرد من الدخل القومي حول 14.100 دولار. ومع أن العلاقة بين التدين والتطرف العنيف غير حتمية، فإن ظاهرة المنظمات الإرهابية المتطرفة التي تستخدم الدين كعنوان ووسيلة للتجنيد في منطقتنا يدعم هذه النظرية. كما أن هذه الشروط نفسها هي التي صنعت انتفاضات "الربيع العربي"، بما آلت إليه من الحتمي ودمار الكثير من المجتمعات.
في اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة في شهر شباط (فبراير) من العام الماضي لبحث سبل مكافحة التطرف العنيف، خلصت الجمعية إلى أنه "يمكن فصم الروابط القاتلة بين التطرف العنيف والفقر المدقع من خلال خلق فرص العمل، والحد من عدم المساواة، وبناء مجتمعات عادلة وشاملة". وأكد المتحدثون على أن "غياب مثل هذه الإجراءات قد أدى إلى تطرف أشخاص كانوا بخلاف ذلك، سيكونون أشخاصاً مسؤولين يحترمون القانون، والذين نجم تطرفهم عن شعور عميق بالإحباط الجماعي والحرمان وخيبة الأمل". إدارة العلاقة بين الفقر والتطرف والاستقرار و"الإصلاح الاقتصادي" هي معضلة حقيقية، وإنما لا بديل عن نجاحها.