إصلاح اقتصادي تقدمي

هل يمكن إعطاء توصيفات سياسية وأيديولوجية للاقتصاد؟!  نعم لأن الأيديولوجيا هي سياسة مكثفة والسياسة هي اقتصاد مكثف. لكنّ الاقتصاديين في العادة ينفون عن قراراتهم أي خلفية سياسية أو فكرية ويحبون ربطها فقط بالحاجة والضرورة والتقدير الفني وهذا صحيح في التطبيق والتفاصيل المتفرعة عن توجه أساسي يكمن فيه الموقف السياسي –  الاقتصادي – الاجتماعي. اضافة اعلان
الأردن في أزمنة سابقة ولأسباب سياسية شهد تمركزا قويا لدور الدولة يضاهي الأنظمة الاشتراكية، فقد كانت الدولة تقيم الشركات والمشاريع الاقتصادية الكبرى التي يعجز عنها الرأسمال الخاص وتمارس التجارة والاستيراد والبيع وتقيد بل تحدد الكثير من الاسعار في السوق حتى أزمة العام 89، فرضخنا لبرنامج تصحيح ثم واكبنا في التسعينيات والألفية الجديدة موجة عالمية لخصخصة القطاع العام وكف يد الدولة وفعلنا كل شيء ممكن لتشجيع الاستثمار، مع أن الممارسات البيروقراطية والسلطوية عملت رغم أنف التشريعات على تعذيب الاستثمار كما عمل النافذون الفاسدون متصيدو الفرص على تطفيش الاستثمار النظيف. وقد شهدنا فترة رواج كبيرة قبل أن نعود بعد أزمة العام 2008 للتراجع، وقبل ان ننجح في امتصاص الأزمة داهمتنا التطورات الاقليمية من الربيع العربي والارتفاع المخيف لأسعار النفط ثم إغلاق الحدود العراقية والسورية ثم  أزمة الخليج مع انخفاض اسعار النفط وكلفة حرب اليمن.
ما يمكن ملاحظته أن المشاكل الأساسية للاقتصاد مثل تدني الانتاجية والبطالة وبؤر الفقر وضعف البنية التحتية والقاعدة المادّية للاقتصاد بقيت موجودة في زمني الشدّة والرخاء، وهو ما نستنتج منه أن البلاد تعيش فترات انتعاش أو ضيق بعوامل طارئة لا تغيّر في البنيّة الاساسية الاقتصادية الاجتماعية للبلاد وأن الفئات الاقتصادية الطفيلية الباحثة عن الإثراء السريع تكون المستفيد الأول من الرخاء والهارب الأول في زمن الضيق.
الآن الأزمة الاقتصادية طالت ونحن نتطلع الى  فتح المعابر مع  سورية والعراق كحبل إنقاذ، لكن الخزينة في الاثناء تحتاج الى المال والحكومة تفكر كيف تحصّل بضع مئات الملايين وطبعا ليس هناك غير جيب المواطن بالضرائب والرسوم كما فعلت في اوقات سابقة وكما هي بصدد ان تفعل عما قريب. هذا تدبير حال وليس برنامجا اقتصاديا وقد يحقق للحكومة مؤقتا بعض المال لكنه لن يتقدم بالاقتصاد بل سينعكس سلبا على النمو. كبار الاغنياء سيهربون من مسؤولياتهم ومحدودو الدخل سيدفعون الثمن وخزينة الدولة ستعود للعجز لأن تباطؤ النمو سيقلص بالنهاية واردات الخزينة.
نريد برنامجا اقتصاديا تقدميا، وحديث جلالة الملك أمس أمام الأعيان أعطى اضاءات خاطفة عليه، برنامجا يشجع النمو ويحفّز الاستثمار ويحمي الطبقتين الوسطى والفقيرة، ويكافح التهرب الضريبي ويسحب الدعم عن غير الأردنيين. وهذه عناوين المواضيع الساخنة المطروحة التي ينتصب أمام كل واحدة منها سؤال الكيف؟! مثلا ماذا يعني وكيف نترجم شعار حماية الفئات الوسطى ومحدودة الدخل ومكافحة التهرب الضريبي؟!. في مقال سابق قدّمنا إجابة بأنه تعميم شامل للفوترة والاعفاءات على النفقات، أما الحكومة فليس لديها جواب حتى الآن سوى تغليظ العقوبات على التهرب ونحن لا نعارض تشديد العقوبات لكنّ هذا حل العاجز، ثم إن نسبة عالية من التهرب تكون قانونية ومحكمة محاسبيا وسوف يقع في فخ العقوبة السذج وعاثرو الحظ من صغار المتهربين.
الرؤية الديمقراطية التقدمية الإصلاحية الجريئة للإصلاح الاقتصادي ستمتحن الحكومة في تفاصيل الإجابة عن سؤال الكيف للعناوين التوجيهية التي أكد عليها جلالة الملك.